الخميس، 10 أكتوبر 2013

يأخذ الله الأم. يأخذ البيت


 

يأخذ الله الأم من البيت. يأخذ الله البيت. ينزع الصفحة البيضاء من كتاب الليل. تمّحي أسنان المفاتيح. تندمل مقابض الأبواب. تهرم الأقفال من طول النظر إلى ميداليات من قطفتهم الحكمة وأمعنوا في الرماد. تتلاشى السجدات من مصحف العائلة وعلامات الوقف. تتخلى الأعناب عن رشدها في الطريق إلى السوق. يفسد البيض في قن الدجاج. يشتد برد القهوة . يفتك بوحدته الهيل. السدرة فوق مذبح العائلة تتوقف عن الإنجاب. الندى على السياج دمع عائلة تفقد همزتها كل مساء. المغزل يمسّد عنقه في العتمة، منتظراً يد المرأة التي كانت تخرجه من حقيبة الأيام وتباهي به.  الإبرة تفقد عينها بعد نزول الملاك. يبتلع طفلٌ جائعٌ جمرة ويكتب قصيدته الأولى: قسوة الملاك.

آن يأخذ الله خاتم الأم البحريّ تفقد المصابيح قدرتها على الوقوف. الكؤوس في المطبخ تميد. الثريات ترجف كأثاث سفينة تشم حتوفها في المحيط. يلمع وجلٌ حلوٌ في أعين الحيوانات الأليفة، ويتحدث فقراء المدينة عن هزة خفيفة شعروا بها قبل الغروب.   

كان يكفي لون خاتم الأم (الشرقي) للمؤاخاة بين ألوان مساحيق المعلمات المرهقات، لترتيب الخوف على أسرة الأطفال المحمومين، لتلطيف ألوان الرجال الذين خسروا الأمل في البورصة ومحافظ الحياة. كان يكفي الخاتم لتحيا البوصلة ولا تتغضن الجهات. كان يكفي خاتم الأم كي تدير خراف العيد وجهها للقبلة بخشوع، وتلمع حُلي الصغيرات، ودلة الرسلان. 

وحين تبتلع الأرض خاتم الأم يهرع الملاك صاحب البوق الضخم إلى بوقه يظنها الإشارة المنتظرة  لقتل الشرور على كوكب الشر. وهناك، من مكان ما على الكوكب يرسل شخص برقية في الفجر: أيها الموت قطفنا لك الليمون وما انكسرتْ. دلكتْ شقيقاتي قدميك بالفل ولم تتورع عن الأمهات. أسقتك البنات سكّر النبات ستة أشهر ولم يصبح صوتك جميلاً. أما أنتِ أيتها المرأة الوحيدة فلا تقعي في الفخ. أيتها المرأة الوحيدة مثل قصيدة: لا تحبي رجلاً ماتت أمه. فقد كان قلبه في الفص البحريّ لخاتم الأم التي ماتت بالأمس. 

يأخذ الله الأم من البيت. يأخذ الله البيت. تقف الساعة المعلقة في البيت. ولا تعود التكّات تؤنس الأولاد الذاهبين منتصف الليل ليتخلصوا من الأذى والبول. تموت ساعة الحائط لأنه لا يعود أحد يطعم الساعة في الضحى نظرته الوارفة، أو يقص عليها وهو ينشج قصة الإفك من كتاب ممزقٍ وعتيق.

يأخذ الله الأم من البيت، يأخذ الله البيت. ولا تعود الجارة التي أثرتْ كبائعة جائلة تحصل على حصتها من البركة. لا، ولا سقف البيت يحتفظ بذخيرته من أعشاب أرامل الحي، ولحاء العناية بشفاههن، أو بخور أصواتهن في الضحى الحميم. 

وحين لا أم في البيت: تلغي الشقيقات البعيدات الحجوزات. يغور الكحل في مكاحل الفضة. الديكة تفقد بصرها بوتيرة أسرع، وتتأخر عن سور الفجر. المذياع المخفور بالجلد البني يعاني من هزة الفقد، وضربة على رأس الحنين:الباحثون يجدون صعوبة في الدفاع عن أنفسهم في الأطروحات الجامعية التي تبث في الصباح. الراوية الشهير يخطيء ويتعتع في أبيات شاعرات نجد. عازف الربابة ليس في يومه. والعلماء  يتلعثمون في الفتوى المذاعة بعد العِشاء الأخير. 

حين لا أم، لا الطريق يفضي إلى البيت. ولا المركبات تحيد عن الطريق إلى سدرة البيت. خيلٌ معصوبةٌ في سفائن  شحن تشم مرابطها في القرى. والقرى بيد الله. 


الجمعة، 19 أبريل 2013

نتحدث مع الأجراس عنك



لأن جرساً واحداً في اليد ليس خيراً من عشرة على الجدار.

لأن النسيان ضبعٌ لا يتورع عن حناء  الأمهات ولا ينحني لأعشابهن المعتقة.

ولأن الجرس المعلق بسلسلة المفاتيح يختفي بشكل غامض كل مرة في حقيبة الأم المعبأة بكل شيء: من علكة المستكة إلى اسفنجة تلميع الأحذية. من دليل هاتف الصديقات الراحلات إلى حلوى الأطفال المنتهية الصلاحية. من إبر السكريّ إلى سكرو درايفر العوينات. من شجرة العائلة إلى أكداس مفاتيح البيوت المباعة وسيارات الموتى القديمة. من قصاصات الصور الشمسية إلى علب أحجار المرّ وحبة البركة....

من أجل ذلك كان لا بد من أجراسٍ لاسلكية لاصقة مثل بلاستر الجروح.

 أجراس تعمل بالبطارية ويمكن إلصاقها بالنافذة، بالسرير المعدني، بالعكاز الرمادي، بمشّاية الشيخوخة، بكرسي الحمام، بالكرسي المتحرك، بالأثاث ، بديكور السيارة الخشبي. بكل مكان مساحته خطوة يمكن ان تذرعيه وينقطع فيه نفسك، او تنفجر فيه مثانتك الخربة، قبل أن يصل الصوت لأحد. 

جرس في اليد ليس خيراً من عشرة على الجدار. لأن اليد تخرّف وتنسى. والخادم تختفي أحياناً للصلاة أو للمعاكسة. والبطاريات لا تدوم مثل وجه الله.

جرس في اليد ليس خيراً من عشرة على الجدار. لأن أنفاسك مخادعة وتنفد، وغطيط الأبناء مع زوجاتهم لا ينفد.

ومثل من يذهبون للحرب ويزنرون أجسادهم بذخيرة فائضة عن الحاجة. تزنرين جسدك الرقيق بالأجراس، وتذخّرين جدران البيت بالأجراس. كأنما تحتمين بالأجراس من الموت العارض للسكون، حين لا يقوم أحد في الليل للتأكد من أسطوانة الأكسجين ولا ينتبه أحد لامتلاء الرئة فجأة بماء الغياب. 

ولأنك أصبحتِ تشاهدين الملائكة أكثر من المعتاد. والديكة في الحديقة باتت أنشط من ذي قبل. أصبحت أصابعك محشوة بالذعر وتنقر الجرس أحياناً بلا مبرر. والخادم أصبحت لا تأخذ طلبك للنجدة على محمل الجد.  

ولأن الأجراس بسبب مرضك صارت تنبت في البيت مثل ثمار الرعد. باتت الأجراس أيضاً لعبة في أيدي الأحفاد ولم يعد سهلاً تمييز الإنذارات الكاذبة من استغاثاتك الحقيقية حين يتلكأ قلبك أو تأخذك الكوما في منتصف الليل. 

لكننا الآن في غيبوبتك الطويلة، وبعد أن بردت أصابعك، وسكتت طويلاً ثمار الرعد في البيت، بتنا نشتاق إلى إنذاراتك الكاذبة ونتحدث كثيراً مع الأجراس عنك

الخميس، 28 مارس 2013

كونشيرتو العلبة






سقف  (المدينة دال)

في المقهى المسقوف يجلس رجل في قسم الرجال.
في ذات المقهى تنتبذ فتاة طاولة قصية في قسم العائلات.
جدار عازل بينهما وسقف مشترك.
هي ابنة المستحيل. يعلم أن صوتها ووجهها من الأشياء الموصدة. وسيلة الحديث الوحيدة بينهما كانت برنامج دردشة فورية نصية.

 سنوات وهو يكتفي بمعرفة اسمها الأول فقط. 
 يتفقان على الحضور كل أسبوع في المقهى المشطور.
 يكتب لها: نطلب ذات القهوة؟ يطلبان ذات القهوة السوداء.
 يقول لها: دعينا ننظر الآن للسقف. هناك تحديداً حيث يلتقي عمودان أصفران متصالبان في سقف المقهى. ترسل نظرتها للسقف. في ذات الوقت يرسل نظرته للسقف. ينفث دخان سيجارته عالياً ليلمس الدخان نظرتها العالقة بالسقف.
 سنوات تمر.
يتصالح مع كونه لن يعرف شكل صوتها ولا وجهها. لكنه يأتي كل أسبوع ليرسل أنفاسه للنظرة المعلقة بالسقف.



متحف البريد

بعد إخماد الحروب والجوع والنساء في البلد أُنشئت مؤسسة بريد بدائية.
 يتناقل الناس حكايات مخيفة عن فظاظة وشبق الجيل الأول من سعاة البريد.
 كان كثير من العمال المهاجرين حديثاً للبلد يشتكون من الوحدة والأشواق وضياع رسائل يترقبونها من الزوجات.
 وفي غرفته كل ليلة: كان أحد هؤلاء السعاة المنتعظين باستمرار يقوم بتحسس المظاريف السمينة التي تعمد عدم إيصالها... ثم بأصابعه المرتجفة يبحث عن صور النساء المخبأة في المظاريف، يختطفها، ليعلقها على جدار غرفته.

في متحفه الشخصي كان ساعي البريد يقبّل كل مساء امرأة غريبة مصلوبة على الجدار وينام.

  

حسن سنكر (المدينة ش)

هواء شباط يفترس النازحين على الحدود الشمالية.
وفي معسكر النازحين المسيّج، يتسلل كل ليلة جندي أسمر نحيل  إلى ركن مظلم من السياج المعدني.
 ثم من داخل المعسكر يتسلل شاب وضيء بملابس رثة.

 يشعل الجندي سيجارة وينفح الشاب مبلغاً من فتحة السياج المعدني.
 يستدير الشاب ويمنح جسده للجندي بما تسمح به فتحة السياج.
 يهتز السياج ويلتحم الجسدان.
 عقب سيجارة يهوي. 
ورقة مالية تتجعلك بحركات خاطفة متوالية وتتعرق. 
وآهة مكتومة وسرية تنتشر في الليل.



هاتف خلوفه (المدينة عين)

      وجه موظف الاستقبال الجامد جعل الرجل العجوز يلجأ للمرضى الآخرين لمساعدته في تعبئة نموذج فتح الملف.
    قال لي إن نظره ضعيف جداً وإنه لا يحسن الكتابة. تركت دوري وأخذته لطاولة قريبة في مستشفى العيون.
-          اسمك يا عم؟ لم يقل شيئاً لكنه أخرج بطاقة الهوية. إبراهيم خلوفة خلوفة. العمر 80 عاماً. رقم هاتفك يا عم؟ لا أحفظه. ولأنه لا يرى جيداً ولا يحسن استخدام الهاتف طلب مني أن أتصل من هاتفه على هاتفي لمعرفة رقم هاتفه المحمول! هاتفه كان قديماً جداً ومتسخاً جداً وزر الصفر فيه لا يعمل!

-          بعد جهد كبير ومحاولات إنعاش بالأصابع والمفاتيح وسن القلم تنفس الصفر في هاتفه فتمكنت أخيراً من إجراء المكالمة المستحيلة وسجلت رقم هاتفه في نموذج المستشفى.

-          يريدون هاتف شخص للطواريء يا عم؟ قال لي: ضع رقم ولدي إسماعيل! قلت: هل تحفظه؟هز رأسه وطلب مني أن ابحث عن إسماعيل في الأرقام المخزنة في جواله.
 كان هناك أكثر من أحد عشر اسماعيل في هاتفه. بدأت بسردهم عليه وهو يبتسم ابتسامة نفي بين كل إسماعيل وإسماعيل ويعتذر.
في منتصف السرد قاطعني وقال: يا بني ضع أي إسماعيل تجده في هاتفي فكلهم يعرفونني!      
  أنهيت تعبئة النموذج وأعدته لموظف الاستقبال.
-          لم تنقطع دعواته الدمثة وضحكاته واعتذاراته عن الصفر المعطوب في هاتفه وعن كثرة اسم إسماعيل في العائلة وعن بصره الحسير.
 ابتسمت له وأنا أفكر أن الحب في هذا البلد يشبه هاتف إبراهيم خلوفه ذي الصفر المعطوب والمحشو بأرقام لم يتم نقرها على الاطلاق