الجمعة، 11 يوليو 2014

أنا أخوك








أنا أخوك. نزيل مقعد السيارة الخلفي كل يوم في الطريق إلى المدرسة. ولدتُ في المقعد الخلفي من سيارة العائلة، ومطلقاً لم أغادره. وهذا ليس مهماً فأنتِ الشقيقة الكبرى ومفهوم أن تستأثري بالمقعد الأمامي.  لكنني أتعذبُ كثيراً لكونك كنتِ مسكونة بغضبٍ غامض. وليس مهماً أنني أيضاً كنت كيس تمرين الملاكمة الخاص بك. ليس مهماً أن كل موجة غضبٍ تهبّ عليك في السيارة تتكسر كانت على وجهي، وأن أي تعليقٍ عابر أو باردٍ مني يجعلكِ تلتفين فجأة على المقعد الخلفي لتسددي إليّ  لكمة أو صفعة خاطفة. ما يهم هو أنني ، حتى ويداك تنهالان عليّ، كنتُ أتعذب من أجلك

الآخرون يقولون إنك تحقدين على شقيقك لسبب غامض، حتى وهو يجلس وينام طيلة عمره في المقعد الخلفي. لكنني كنت ولعقودٍ لا أريد سوى أن أخنق غضبكِ الذي يفترسكِ أمامي، دون أن أفكر بالانتقام أو أن أصدق قصة الحقد.  وحتى عندما كبرتُ وصار لدي جسدٌ قوي، وتحولتِ من تسديد اللكمات إلى تسديد الكلمات الخشنة إلي، كانت عيني تربتّ عليك، ولساني ينسحب بهدوء تماماً مثل قطة البيت. فما كان يقلقني ويشغلني هو أن أفهم جذور ذاك الغضب الذي يحتلك منذ عقود.

 واليوم وأنا في العقد الرابع، وأنتِ لا زلتِ نزيلة ذات الغضب، ربما لا تدركين كم أفتقد مقعدي الخلفي في الطريق إلى المدرسة، وأفتقد المسافة القصيرة بين كيس الملاكمة ويديك. فعلى الأقل كنت في المقعد الخلفي أشرب غضبك الذي لم أستطع أبداً سبره. كنتُ في السابعة من العمر أبكي عليك لا بسببك. والآن في الأربعين لم يعد مناسباً أن أستمر ككيس ملاكمة يهتم بنوباتك الغامضة، ولم أستطع أن أبتكر طريقةً مقبولةً كي أقترب من شذاكِ أو أمتص أشواكك كما كنا في سيارة العائلة. وما يؤلمني حقاً هو أنكِ لم تتخلصي طيلة حياتنا من تلك الكهرباء التي سرقت صوتك الحلو وعينيك النهريتين اللتين حصلتِ عليهما من أبي مثلما حصلتِ منه على المقعد الأمامي.

أنتِ تعلمين أنني لستُ ماهراً مثلكِ في كتابة القصص والقصائد، ولا في التعبير عن المحبة مثلك. وأنتِ أيضاً تظنين مثل أمي أنني مكعب ثلج صامتٍ لا يحبذ ترك القالب، وأن قلبي يتحرك فقط حين ألمس كرة القدم، حتى إنني لا أتذكر كم مرةً مارستُ رسم القلوب بأقلام التلوين. لكن كيف فاتكِ أنني أبكي بصمتٍ عليك منذ أربعين عاماً، كما تبكي بهدوء ناعم قطنةٌ مبتلة. ودعيني أسأل: هل سُمح لأخٍ من قبل أن يرسم قلباً أحمر لشقيقته أو أن يدسّ تحت باب غرفتها رسالة حب بخطٍ سيء. هل ترك أحد الروائيين الذين تعرفينهم أكثر مني رسائل حب إلى شقيقته. أنا لا أعرف حقاً ولا أستطيع توصيف هذا النوع من الحب بشكل واضحٍ لأنني أقل قراءة وموهبةً منك، ولأنني ولدٌ عليه أن يركض  فقط. لكنني أظن أن حبكِ يعني ببساطة  ألا أراكِ غاضبة، وألا أسمح لأحدٍ أن يغضبك، حتى لو استدعى الأمر أن أهشّم رأسه ، أو أن أصبح حين تثورين بلا سبب كيس تمرين الملاكمة الخاص بك.

 والآن، أعلم أنه مثلما لم يسمح لي في السابعة أن أدسّ قلباً أحمر تحت باب غرفتك ، أعترف أنني لن أستطيع دس هذه الرسالة اليوم في موبايلك. لكن الولد سيء الخط الذي تسمونه مكعب الثلج أراد أن يقول لحبيبته: أنا أخوك. 

الاثنين، 7 يوليو 2014

مثل قوقعة تصغي إلى نفسها







مثل قوقعة تصغي إلى نفسها، قرطاكِ يشربان النداءات الأخيرة للرجال الذين أغلقتِ على أصابعهم الماء والليل.

تحدث أشياءٌ مذ عدتِ من البحر: تختنقين بالورد والريحان. وتبدأين باقتناء القطط بعدما تجاوزتِ الثلاثين.  

تحدثُ أشياءٌ بعد أن عدتِ  من البحر: تفقدين غمازةً واحدةً، ولا إلى أحدٍ تشتاقين. وكأنما الأشواق دفنتِها في نقرة الخد. 

تحدثُ أشياءٌ مذ عدتِ من البحر: تمطرُ أكثرَ من المعتاد في الصيف. تفضّلين الفضة على الذهب، وتفقدين القدرة على الحزن. 

ومثلَ قوقعةٍ تصغي إلى نفسها: تحفظين كلَّ قصص البحر، لكنكِ لا تفهمين أبداً جزعَ الذين ينتظرون على البحر. تعرفين قبلي كل أغنيات البحر، لكنكِ تجهلينَ أثرَ الملح في الحنجرة. 

تحدثُ أشياءٌ مذ عدتِ من البحر: تزدادين جمالاً، ولا تمرضين، لكنكِ تفقدين القدرة على الحب. أما عيناكِ الطيبتانِ فباتتا لعنةَ من يراك، ومذبحاً صغيراً للذين انتظروا طويلاً على البحر. 

تحدثُ أشياءٌ مذ عدتِ من البحر: صوتكِ يضيءُ في الجريدة، في التلفاز، ووسائل التواصل، لكنني لا أراه. وكأنّ صوتكِ الذي أجيدُ  قدْ دفَنَهُ نواخذة في عَرضِ البحر. 

ومثلَ قوقعةٍ تصغي إلى نفسها: تؤتَين الحكمة، وتسافرين كل ليلة، ولا يؤثرُ موت القريبين فيك.

فجأة أصبح لكِ شعرٌ قصيرٌ وجناحانِ من فضةٍ وصمت. وكأنكِ اصطدتي في رحلتكِ البحرية أعشاب اللامبالاة والكلام المهذب الذي يطيل ساقيكِ وسالفيك، تاركةً إيّايَ أتحدثُ بإعجابٍ وأسى عن بسالتكِ في التَرك. ويا إلهي.. كيف لم أنتبه أنكِ صرتِ قدّيسةً بعدما عدتِ من البحر، وأنّ عينكِ التي لا ترفّ قد حوّلتني إلى سائحٍ يبحث عنكِ في (التحولات) ، ويجمع من أزقة أثينا تماثيلكِ الرائعة.