أتركُ البيتَ من أجل البيت.
لأن البيت يحتاج إلى بيت.
لأنه مزدحمٌ بي ويحتاج إلى الهواء.
يحتاج أن يجلي أهله
أحياناً كي يعود إلى نفسه ويصلب طوله من جديد.
كأن علينا أن نترك مسافةً بيننا وبين البيوت.
شيئاً من البعد والهواء كي لا يصيب الملل هذه الزيجة الطويلة البيضاء.
كأن البيت يحتاج إلى كهف يبكي فيه مثلما يبكي الرجال حين يسافرون وحين يعودون.
للبيوت عادات مثل أهلها.
وربما عادات يخجل البيت من ظهورها أثناء وجودنا فيه.
لأن البيت روح. والروح لها عادات لا علاج لها.
لأن البيت أبٌ غامض أيضاً،
وله أسرار يبوح بها للشمس والظلال، يخفيها لفافات من الهباء في زواياه.
لأنه ربما كانت للبيت طرق سرية في التنفس والتدخين،
وربما لا يريد أن يدخن أمامي بدافع خجل أبوي.
أيظن نفسه قدوتي؟ يخجل من طفولته التي تظهر مع تقدمه في العمر؟
كأن للبيت حاجات
لا يفهمها المقيمون فيه، ويحتاج حينها أن يكون وحده بلا عابرين.
كأن يكون على علاقةٍ غير مرئية بمبنى مقابل أو بكائنات ما فوق
الفيزياء؟
هو البيت. ليس جسماً أو موجة. ليس حلم أحد. حلم نفسه ربما.
وللبيت حواس، أقول، وله حاجة إلى الضحك والغضب والدمع والازدهار.
ربما يريد هو أيضاً أن يبكي طفولته، مفقوداته،
وأسلافه، ويمنعه وجودي فيه من البكاء.
خروجي من البيت ضرورة للبيت.
والمكث في المقهى طيلة الوقت ليس ترفاً، بل
هو من أجل سلامة البيت
فحين أخرج يرتب البيت نفسه من جديد،
يعدل من أخطاء الوقت والتناسخ والملل والتكرار كي
لا
ينهار.
وأفكر أن الوحدة فكرة أنانية تقتل البيت.
أن الوجود الطويل لشخص وحيد داخل بيته سوء هضم وسوء فهم للحريات.
أحس أحياناً أنني وجبة هذا البيت التي اختطفها وهو مخمور
من مطعم صيني شبه مضاء في شارع فرعي
وأفسدت قلبه ومعدته ولياليه.
كأنني ألم معدة البيت. كأنني شعوره بالتخمة والغثيان.
أشعر أن جسدي سالمونيلا البيت.
أن روحي فكرة سامة تقتل البيت ببرود.
أن انبعاثات سامة تتطاير من جلدي وأدمغتي قد تقتل البيت في أية لحظة
حين أبقى
أياماً دون أن أخرج على الإطلاق.
كأنني نفاية البيت.
صحيحٌ أن البيت يتنفس حين أخرج القمامة منتصف الليل، وحين أستحم، أقلم أظفاري، أتخلص من أذاي.
لكنني بشكل ما، مع الوقت، ربما بسبب سوء الصدر ونوبات الغضب
والإفلاس أول الشهر،
أصبحُ
نفاية البيت.
كأنني حين أخرج منه يتنفس
البيت.
لذا أخرج على عجل، أحياناً، كي يلتئم عظم البيت.
أنام عند صديق أو في سيارتي في
الخلاء كي لا يتسمم البيت ويموت.
أترك البيت
كي لا يموت البيت
حتى لا أفقد آخر شيء
يسمح لي بالرجوع إليه.