الاثنين، 27 فبراير 2023

صعود





لست وحيداً في المنزل، ولا حين أخرج منه.


تلازمني سماعة موسيقى أصغر من قبضة اليد.  تجلس معي مثل تفاحة غالا مستلقية على منضدة، كلما همزتها بنقرة إصبع 
من هاتفي تحولَ المكانُ إلى مسرح وعازفين. رفيقة شاركتني الغُرَف والأزمنة والأهواء عشر سنين. ظلتْ تذهلني  قدرتها في المساءات الميتة على ملء الخوف بالناس والليل بالصوت.


مرةً وضعتها فوق طاولة القهوة. وحين أشعلتُ أغنيةً حافلةً بالطبول انحنت ترقص فوق الخشب، قبل أن تسقط على الباركيه، 
وتستمر بالدبيب والزحف، ذاهبةً في سكرة الفولاذ. وحين رفعتها ووضعتها فوق السرير توقفتْ عن الرقص، لكن الموسيقى استمرت تتصاعد منها كأنفاس رضيع.

كي أمنعها من المشي وسط الموسيقى جربتُ مواد وقطع أثاث محاولاً معرفة مزاجها الذي يقودها للجلوس بهدوء المعدن المألوف. جربتُ رخام سطح المطبخ وحافة مغطس الاستحمام وصفحات الكتب ومنضدة الزينة وضلفة النافذة.

لكن الجنية لم تتوقف عن اهتزازات الموت إلا حين كنت أضعها فوق الصوفا، فوق فخذي، أو فوق السرير.

كأن معدن الستيل لم يحمها من هزة الحزن والانتشاء. كأن الحديد فيها حين يهزه الإيقاع يشير إلى اللين والأقمشة. 

كانت تتثنى وتدور في مقاطع الحضرة، وتتخلع في مقاطع الفرح. وكان الضوء الأزرق الخافت الذي يخرج منها يأخذني في العتم إلى الحانة ويدلني على البحر.

أحياناً أحسبها نيزكاً صغيراً هبط في فناء البيت بحثاً عن أصدقاء. وحين تضطرب بشدة وترتج، أراها قلباً منزوعاً من صاحبه الميت مغموراً في ثلج الجراحة، ينقبض ويلوّح منتظراً غرسه في صدرٍ غريب.

 


قبل أيامٍ ذهبنا إلى جبلٍ شاهق في عالية نجد. قيل إن بحراً قديماً كان أسفل الحافة بكائناته وشعرائه وعابريه. وضعت ُالسماعة الباردة فوق الأرض الصلدة وأشعلتُ الأغنيات. الجنية فوق حافة الجبل نادت وانتشت وانتشيت. بادلتني الكلام والشجن والأناشيد. انتشينا معاً ودمرنا أرتال الوقت. 

كنا غريبين هاربين نشعل النار على حافة من كلس وأحجار من زجاج وضوء قديم. كانت الحافة تطل على كل المفقودات، فوقنا العقبان، بيننا تتصاعد أدخنة الحطب والتبغ، وعلى جبين الجنية ظلت تتردد فراشة صفراء.


الحافة اللامعة أظنها شلالاً كانت في موسم السيل. الشلال الغائب كان ضحكة الجبل المطل على الرعاة والصحراء. 
كنتُ معها نتخفف من الأيام فوق جبل نحتته الأيام. وحيدين فوق حافة الأيام الخالية. محمومةً بالشغف الأخير كانت، ومحموماً كنتُ بالناي والسامري. غيوم سجائرنا ترتفع فوق الحافة، تحت الزهرة، وأحلامنا تصعد الليل.  

سهوتُ في أغنية قديمة، وما فطنتُ أن السماعة بدأت تدْرجُ فوق الصخرة الناعمة، وتتهادى كقطاة. أشفقتُ وما استطعتُ اللحاق بها وهي تتداعى. شاهدتها تضطرب على الجرف، تسقط، ترفرف في الهوة، وتختفي في الهواء.