الخميس، 1 يونيو 2023

كدمة الفراغ

 


أنتمي للفراغ بين وردتين،
أترك قلبي في المسافة لا العطر. وأرى كل شيء في المسافة بين شيئين.
أختبيء في الصفحات الملتصقة ببعضها في كتاب قديم. أريح عيوني في البقع التي تتجنبها العيون.  وأتحاشى العيون القديرة والحرير الطبيعي.

أتجنب العيون اللامعة لأنني أحب الصفحات الملتصقة في الكتاب القديم. وأنتظر في الجسر الفارغ بين عينين ساطعتين. لأن الليل الأول هناك. في الفجوة بين شجرتين، لا في الثمار العمياء.  أتجنب النظر الحاسر إلى هالة النهد. وأرتاب من شعاع الغبطة.

 لأن الشعاع دفء متوقع ومميت. لأن الحمأ امتحان النوم والبذار. لأن النهد مخاطرة المرج. لأن النهد عينٌ مطفأة، ومجهرٌ حالك. أميل إلى البرزخ العظمي بين نهدين أكثر من انخطافي بشميم الضياء. لأن الفراغ كنزنا الوحيد. لأن النهد ذبذبة الكون السائر إلى الحتف. لأن النهد موجة تتربص ولا تستقر.

 أميل إلى الفراغ الحكيم الذي يمنع نهدين من أن يجرحا بعضهما في الليل. الفراغ الذي يجرحه الساتان وترمقه التخاريم، ويظل صامتاً رغم كل شيء. الفراغ الواضح الذي يكفي لنعرف اليأس، الذي هو كل شيء. أفكر في الفراغ المهمل الذي تظلله زهرتان مائعتان من فرط الليل. وكم أود أن أقول شيئاً لهذا السياج الحزين بين عضلتين كابيتين. لكن السياج نقطة لا تحب حروف الغرباء. 

أتحاشى نظرة الهالة. لأن النهد ثمرة البرق، والحلمة عين وحيدة في جبهة العملاق. وأخشى النظر، لأن النهد قلب الأم. لأن النهد شامة بيضاء تمحو الحظ. لأن النهد موجة تائهة من زمان قديم. لأن النهد يدٌ مغلقةٌ تحفر في الهواء. لأن النهد هديلُ العدم. لأن النهد علامة الوقت.
أوقات سيئة أو سعيدة. أوقات ممتلئة فراغاً وعتمة وراقصين.


نهدان أو شرفتان تذودان عن غبطة الصباح. لا شرفة تشبه شرفة أخرى. لا شرفة تعرف شرفة أخرى. كل نهد هو عين نفسه، لسان روحه، زند خرائبه وأوردته الزرق. كأن النهد شعلةً تتململ، تتمتم كلاماً وبخوراً وتعاويذ. وحين يكبر الشتاء يصبح النهد مدخنة البيت، ويحتاج إلى أطفال بأسمالهم، يتسلقون، يزيلون عنه السخام.

أسميكَ كساد الطفولة. فسادَ الهواء أسميك، وفداحةَ المصاريع. وأراك أول الموت. مخبأ الحزن. أسلاب الحب. هدنة الحليب. انحرافاً خفيفاً في الأحداث، وقدحاً يراق لتكريم النسيان، أراك أو لا أراك أيها النهد.

لأنك الضوء المتعب من نفسه.
لأنك الحرية الفاسدة.
لأنك نهوض الحرب.
لأنك ندم البرق.

لأنك قلق العائلة.

ننفصل جميعاً عنك.

نتذكرك بين يد القابلة ويد الدافنة أيها النهد.
ونذكر أول انفصال حدث في الأرض: نهدان كاناً قلباً واحداً، أفاق ووجد نفسه حجرين.


لذا تنكسر المرآة في الغرفة وهي تتشوف النهد، وتكبر حيرة البحيرة حين تنعكس فيها صورة النهد الذي يوماً 

أحب الحياة.

‏ هل كانت الريشةُ لوزةً واللونُ حليباً بيد الله وهو يعجن النهد الأول؟ ثم ماذا فعل حين انتهى من صبّ الآخر؟

 أأدخله قفص الرحلة ليزدهر الشتات في السكك والأيام؟


يا للحزن الذي يلف الأرض حين ينهض النهد وتربو دائرة الكلام.

أيها النهد. أيها الطلل الرخو. أيتها الكلمة التي لم يقلها أحد. أيها المرتفع كقبر. أيها الحلم المغلق كصدفة. أيتها الزينة المتدلية من المستقبل البارد. أيتها الصخرة التي تريد أن تكون صخرة، والوردة التي تريد أن تكون وردة. لن تكون سوى إرادة خالقك المتعب الحزين. يا شرفة الحسرة. يا نية المرأة المتعبة من الوظيفة والفقر. يا مرآة القلب. يا قديسةً تربّي الجوع. يا فناراً ضائعاً أول الصبح. ‏يا قطةً تتخلص من بناتها كل مساء. يا تلّةً مكتظة بالعواء. 

أيها الانحناء الذبيح. فكر أيضاً بالفراغ بين عينيك. فكر ببهحة السهم. فكر بسعادة اليد الخالية من اللمسات.

عد أيها الغرق إلى الماء. وأعدنا إلى الألواح. خلصنا من الطين، وأعدنا إلى الصمت.