الاثنين، 13 يونيو 2011

الحمامة الثانية أكثر عمقاً



كان بيكاسو يقول: المدهش في الحمام أنه حين ينظر إليك، فهو من يشعر بالأمان، مع أن المفترض أن نكون نحن من يشعر بالأمان.



الحمامة لا تشبه أحداً.  طائر المحبة و البريد الأليف الذي أعطاه الله إبرة مغناطيسية ليحفظ جغرافيا الكون وقلوب الكائنات، هو الطائر الذي رأى أولاً، حين جاء بخبر اليابسة بعد الطوفان.


الحمام ليس مجرد مسافر محنك، بل هو فنان مرهف المشاعر بالفطرة، حتى أن علماء النفس في تجربة نادرة أظهروا قدرته-أي الحمام- على التعرف على لوحات بيكاسو و مونيه، والتفريق بينها، وعلى امتلاكه نفس مهارات المقارنة الفنية التي يمتلكها شخص في المرحلة الجامعية لتمييز أعمال فان جوخ و شاكال! (1)



أما لماذا الحمام الآن، فلأنني بعد أن أعدتُ قراءة ملحمة جلجامش –أقدم ملحمة في التاريخ- و جدتُ نفسي أقلب تفاسير سورة هود التي حكت قصة الطوفان، و صدري مكتظ بالحمائم والأسئلة. أما العلاقة التي تربط بين أسطورة جلجامش المكتوبة على ألواح الطين السومرية قبل 4000 سنة وبين سورة هود، فهي قصة الطوفان العظيم، والحمائم، والبحث عن اليابسة.



كان نوح في سفينته يقيس المسافة إلى اليابسة بالحمائم (2). فبعد أن توقف المطر أرسل نوح حمامة، وبعدها بأسبوع أطلق حمامة أخرى.
الناس لا يذكرون إلا الحمامة التي وجدت بعض مواضع اليابسة وعادت بغصن زيتون. يذكر الناس جيداً تلك الحمامة التي عادت و صارت رمزاً للسلام. لكن لا أحد يذكر الحمامة الثانية التي أطلقها نوح بعدها بأسبوع و لم تعد حتى الآن. تلك الحمامة التي ربما وجدت شيئاً حقيقياً ولم تعد للسفينة، فأدرك نوح قرب وصوله لليابسة!



الحمامة العائدة بغصن الزيتون خلدها بيكاسو، و أصبحت صورتها مدموغة على شعار الأمم المتحدة، و توالى ظهورها فيما بعد في الصحف و المحافل كسفيرة للسلام. لكن ماذا عن الحمامة التي لم تعد؟

الحمامة الأولى أكثر شهرة. الحمامة الثانية أكثر عمقاً! أو هكذا أرى!



هل كانت الرسالة غير المرئية المربوطة بقدم حمامة الغياب تكمن في إيصال رسالة الغياب للمنتظرين على السفينة، كي يُفهم أن هذا الغياب بحد ذاته هو المعنى الذي سيوصل التائه في الطوفان الى اليابسة؟ وأن هذا الغياب يعني انحسار مياه الطوفان و قرب النجاة؟



أظن أن قيمة رسالة حمامة الغياب أيضاً هي في استقلالها، و حماية المعنى من التكرار، فلو عادت للسفينة هي أيضاً ، وكررت رسالة الحمامة الزيتونية، لأصاب اليأس العالقين في البحر، لأن هذا يعني أن سبعة أيام أخرى قضوها في البحر لم تأخذهم خطوة واحدة إلى اليابسة. و بهذا المعنى أيضاً يكون الغياب تفسيراً لخطية الزمن ، و شاهداً على الأمل.


يكون الغياب موحياً و مكتفياً بنفسه حين يكون مفضياً إلى العلم و المعرفة، إذ حين لم تعد الحمامة (علمَ نوح أن الأرض قد برزت). ثمة هذه الوشيجة بين الغياب والمعرفة. غب لأعرف. غب لأعرف الحياة، أو كما يردد العشاق أحياناً: غب لأعرفك!



حمامة الغياب تطرح قيماً موجبة لا تنتهي للغياب، بوصفه مادة ثرية و غنية تدفع باتجاه الاستقرار والوصول، لبدء الحياة من جديد، على أرض جديدة. هكذا ينظر التائهون في السفينة إلى الغياب الذي اقترفته الحمامة بوصفه علامة على اقتراب الحياة لا الموت، وعلى أنه نبأ مبهج، فيا للمفارقة حين يصنع غياب ما بهجة شاسعة!



لكن كيف تنظر الحمامة التي حلقت بعيداً إلى غيابها؟ هل فقدت الاحساس بالوطن على يد نوح، وأغراها العالم الجديد؟ هل أصبح الوطن لديها في الذهاب إلى الأمام فقط، إلى الجديد، إلى التفرد، و لذة الدهشة غير المكررة؟ هل هربت الحمامة الغائبة من شيء لا نعرفه أو أدركت قرب شيء لا نعرفه فانطلقت وحيدة و منفردة إليه؟


حمامة نوح التي لم تعد هي أول من مارس حرية الذهاب الى الغيب، و استسلم لغواية السفر الحر. 



الحمامة الزيتونية أكثر ملاحة وهي تضع غصناً أخضر في فمها، وتتبرج لرسامي العالم. أما الحمامة التي لم تعد فأكثر غنى و أكثر اكتنازاً بملامح الدهشة و المعاني المدفونة مع اختفائها ككنوز غامضة.



ماذا عن الأمان الذي تحدث عنه بيكاسو؟
لقد شعرت الحمامة الزيتونية بالأمان بكل تأكيد وهي تعود و تنظر إلى عيني نوح، و تشعر بالوطن، فإلى أي العيون نظرت الحمامة الأخرى التي لم تعد كي تشعر بالأمان؟


لقد كانت كل عيون الكون حينها في السفينة فلم ينج أحد على الأرض سوى أولئك الذين صعدوا مع نوح إلى السفينة، فكيف وجدت حمامة الغياب أمناً ووطناً في الذهاب إلى الأمام دونما عينين تطمئنان إليهما؟ 



الحمامة التي عادت وفي فمها غصن زيتون شخصية تاريخية لافتة، لكنها لم تستطع أن تمنحني كل هذه الأسئلة الغامضة، ولم تستطع أن تسرق دمعةً مني كما فعلتْ ببراعة تلك الحمامة التي لم تعد!


---------------------------------------------


(1) Watanabe, S., Sakamoto, J., & Wakita, M.: "Pigeon's discrimination of paintings by Monet and Picasso", Journal of the Experimental Analysis of Behavior 63 (1995), pp. 165–174  



(2)" قال محمد بن إسحاق:فلما مضى بعد ذلك-أي الطوفان- أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه، فأرسل الحمامة فرجعت إليه فلم يجد لرجليها موضعاً ، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قل على وجه الأرض، ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه، فعلم نوح أن الأرض قد برزت" (تفسير الطبري)


"وعند ظهور قمم الجبال بعد مرور أربعين يوماً من الطوفان، أطلق نوح غراباً وظل يحوم حتى انحسار الطوفان ولم يعد للفلك، وبعد سبعة أيام أطلق نوح الحمامة التي لم تجد موضعاً تحط فيه فعادت، وبعد سبعة أيام أخرى أطلق نوح حمامة أخرى فوجدت بعض المواضع اليابسة وعادت و معها غصن زيتون غض، وبعد سبعة أيام أخرى أطلق نوح حمامة ثالثة ، وهذه لم تعد إلى الفلك، فكان ذلك علامة على انحسار الماء" (سفر التكوين)

هناك تعليقان (2):

  1. عندما يفيض علينا الغياب حضوراً ..

    ردحذف
  2. سبحان من جعل بحاراً مثلك يا محمد أول من يطأ يابسة هذا المكان!
    كل الامتنان والمحبة لك أيهاالشاعر.

    ردحذف