الأحد، 19 ديسمبر 2021

طلاء

 




غجرٌ على أطراف ليل.

 غجرٌ يزجرون الحظ، ونساءٌ يبعنَ أصابعهنّ للخرائط والضوء. 

هكذا بدت الزينة المجففة فوق أظافرهن العالية.

هكذا رأيتُ الأظافر مرهفةً مثل كؤوس النبيذ، والطلاء قانياً كالقلب.

أنا الولد الذي كان يدخل العُرس خلسةً كي يراقبُ الأنجم في أظافر الجارات، ويقتفي في أظافرهنّ أثر الأيام،

أبصرتُ عَظْمَ القلب يشتدُّ في زجاجة المنيكير،

شاهدتُ هذا الطلاء يحمي بناتاً في المدينة من الحزن والوقت،

وأبصرتُه طريقة القرويات في الهرب من القرى والأمهات.


حين تمزجُ امرأةٌ هذا الطلاءَ في زجاجته. تمزجُ الأيامَ القادمةَ بالأنفاس،

 تذيبُ أعصابها بالمذيبات والندى والأخلاط. 

وحين تُخرجُ الريشةَ من زجاجتها  تزدادُ حدةً في البصر، وخفةً في الساق. 

حين تنقرُ ريشةَ المنيكير على ظفرها ينتظم القلب. 

تأخذُ نفساً عميقاً كما في حصة يوغا، يلتفُّ على ساعدها شذى العطر وشهوة الطيران. 

نقرةٌ نقرتان. جناحٌ وجناحان. 


الضرباتُ الخفيفة على البَنان تمارين الهدوء، إرخاءُ ربلة الساق.

يرتخي النبع،

والحياة القصية تغدو نزهةً خفيفةً بين أبخرة اللون وروائح البنزين والغراء.


كأن هذا الطلاء شرفة القلب والكيمياء.


هذا الذي تغيّرهُ امرأةٌ كلما اعتراها الليل فيَسيلُ وردةَ نارٍٍ في المجرات.


 هذا اللامعُ من أحجار القلب وقشور الأسماك. 


هذا المعجون من بارود وكحول. 


هل هو الدم والشاش؟ الكسر والجبس؟ الشقيقة والبنادول؟


 أم هو السهو الذي يتعفف عن كل شيء؟


هذا السقف الرفيع الذي تحمله امرأة حائرة فتقلبه فوق رؤوس الجميع.



تضع العائلة طلاءً جديداً على حائط البيت، والصبية طلاءً جديداً على أظافر اليد. 

الطلاء على حائط البيت ثغرة في الجدار الممل.

الطلاء على الظفر قفزة هائلةٌ في الظلام.


هكذا يعالجن العتمة بالنرد والنقر والأصباغ.



ليس شيئاً هيناً هذا الغشاء الرقيق. 


هذا الكوكب الذي يفاجئ الإسطرلاب. يولد خطفاً من أظافر امرأة تتلهى بصب النجوم الميتة فوق يدها الخاوية. 

وحين تجفف اللون السائل، وتنفخ فيه من روحها تتهاوى نسورٌ من رؤوس الغيم، وترتفع دروعٌ وأقنعةٌ وصولجانات.


كأنه السحر هذا الطلاء.

 تدخلُ اليد قاتمةً في زجاجة اللون فتخرج بيضاء ممسكةً بالصولجان.


أفكر كيف أن الطلاء الذي يحجب الماء عن أظافرهن يجعلهن يمشين على الماء. 

كيف أن هذا الطلاء ألعاب خفة تسرق الرجال. 

أولئك الذين يذهبون إلى السيرك لأنهم يرغبون بتصديق الخدعة وإطلاق التنهدات.

 يذهبون إلى المنيكير برغبة مسبقة في الانبهار. يذهبون بقرونٍ سكرى إلى خرقةٍ حمراء أو زرقاء أو خضراء. 

يذهبون بأقدامهم إلى جُزرٍ ستختفي بعد أيام.


يشبه الأمر مدينةً محاصرةً تغيّر كل مساء لون سورها العظيم. ثم حين يفطن الغزاة يصابون بالحيرة،

 ظانين أن المدينة التي كانوا يحاصرون قد طارت في الهواء. يتقرّى الجنود الهزيمة بإنتشاء وهم يتنشقون رائحة الطلاء الجديد للسور.


هكذا كل ليلة، تنام يد المرأة قريرة العين رغم الحصارات. 

فيما الجنود يبيعون عيونهم للفنار، ويرمون سجائرهم في البحر.


الخميس، 9 ديسمبر 2021

الشخص



وصلتُ في الليل. كان الوقت غيوماً والبيوت قططاً حزينة. الريح دراجةً ناريةً تلعن الأفق. والقرميد الأحمر المتآكل تاج المدينة الغاضبة.  وصلتُ إلى المنازل المبتلة منذ قرنين، بمداخن تالفة، وأبواب من رماد. وكانت تمطر حين غرزتُ مفتاحاً في بيت ظننته البيت، فانفتح باب، ودخلت. كان الناس في إغماءة الكحول، والأطفال في أسرّة الصقيع. نبح كلبٌ، أكل أطفالٌ حبوب إفطار، ووجدتُ نفسي في سرير شخص غادر للحرب. فقدتُ صوتي حين ضرب البرق، ودخلتُ فجأة حياة شخص آخر. وما كابرتُ أبداً لأن البيوت هنا لا ينقصها الأسى، والشارع ضيقٌ مثل وريد. لأن الناس يشبهون الناس، والمنازل في البلاد الباردة تبدو مثل بعض. لأن المفاتيح كذبة في البلاد التي تمطر كل يوم، والسقف يبدو كلمة مهجورة أفسد المطر معناها القديم. ما كابرت. وانكسرت لأن المطر الذي لا ينقطع يكفي لينكسر الشخص يوماً ما.

الخريف أخذ برأسي، ثم ألفيتني في سرير بارد لا رأس له. كأنني من كثرة الطائرات التي نمتها كنتُ جاهزاً للاختفاء. هكذا نمتُ مع المرأة التي لا أعرف وتضع على قلبها قطةً سوداء. هكذا واصلتُ حياة شخص لا أعرفه. وما كابرتُ. أنجبتُ للجندي أولاده. أخذتهم للمدرسة. هذبتُ حديقته. أكلتُ أسماكه. أخرجتُ قمامته. حلقتُ ذقني بموساه. خرج دمه الأبيض من جرحٍ في ذقني. سمعتُ موسيقاه. أشعلتُ شموعه. شتمتُ امرأته، تقبلتُ شتائمها. ثم جلسنا عشرة أعوام على طاولة العشاء نتحدث عن غضب العابرين. عشرة أعوام أنظر إلى عينها التي تشبه حديقةً مهملة في كنيسة. مربوطاً بشعرها الأحمر عشتُ. وواصلتُ ما كابرتُ. مات أبي في الصحراء ولم أتمكن من الحزن. ماتت أمي ولم أتمكن. قامت حربان، جاء ملك ثم ملك، تغير لون الوقود، ولون جواز السفر، ولون العيون.


لم يقتنع أحدٌ أنني لم أكن جندياً ولم أذهب يوماً إلى الحرب.