-1-
بعد أربعة وثمانين عاما من الكارثة، وبعد أن نقضت حبالها المئة، صعدت السيدة روز مقدمة سفينة البحث الامريكية في الاطلسي، تماما فوق حطام السفينة الغارقة تايتنك ، ثم انفرجت أصابع يدها الراعشة عن قلادة زرقاء رائعة تركتها تهوي في قلب المحيط، كأنما ليمسح الضوء الازرق الدافىء وجهاً نافقاً وبارداً في المياه.
الشهقة الطرية التي انفرطت من جوف السيدة روز لحظة انزلقت منها القلادة تتجاوز الثمانين عاماً بعد أن ظلت كل هذه السنوات مركومة في صدرها الموصد كصدفة.
تخرق الجوهرة الماء، ترقد الآن في قاع المحيط، فتستيقظ الغرف والموتى، وتضيء فجأة ثريات السفينة الغارقة وتمتلىء القاعة بالضيوف.
تعود السيدة روز من مقدمة سفينة البحث الى سريرها لتتم حلمها الطاعن في الضوء تشق صفوف الضيوف، ثم تصعد السلالم بخفة السابعة عشرة لتمس يد الشاب التي بردت منذ عقود ، جاك دارسن.
هكذا يرسم الكاتب والمخرج السينمائي جيمس كاميرون قفلة فيلمه الأخير تايتنك ، الفيلم الذي أثار قلق مموليه لارتفاع تكلفة انتاجه البالغة مائتي مليون دولار، هكذا: بثروة تهرق و حلم يضيء.
ومع أن الفيلم يتناول أساسا كارثة غرق السفينة تايتنك في عام 1912 إثر اصطدامها بجبل ثلجي عائم في شمال الأطلسي، إلا أن كاميرون مخرج (تيريمناتور2 ) لا ينزلق إلى توقعات من انتظروا مشاهدة فيلم كوارثي يعتمد التشويق و الإبهار التقني ولقطات الحركة المتقنة، الأمر الذي كان سيحيل الفيلم الى مجرد سرد تسجيلي للكارثة.
- ينجح كاميرون في التقاط مصل حي يحقن به ورك الكارثة من خلال نسج قصة حب ضارٍ بين الفنان الشاب جاك (ليوناردو دي كابريو) والثرية الشابة روز (كيت وينزلت) ، يلقي بعدها بالقصة بانحناءاتها وتقلباتها الدرامية في بؤرة الحدث الكارثي الذي يسهو عنه المتفرج طويلا لانشغاله بمتابعة تناميات الوشيجة المذكورة، حتى أن حضور الكارثة في الثلث الأخير من الفيلم يبدو مصعّداً، ممتزجا، ومتمماً للعلاقة الانسانية في أحلك لحظاتها - لا يحدث الاصطدام الهائل الا بعد ساعتين من بدء الفيلم البالغ طوله أكثر من 3 ساعات!
-2-
- يبدأ الفيلم بالزمن الحاضر حيث فريق غوص أمريكي على متن سفينة في شمال الاطلسي يحاول العثور على مقتنيات مهمة بين حطام السفينة الغارقة " تايتنك" والتي كانت تقل ألفي راكب بينهم عوائل ارستقراطية ثرية من أوروبا الى أميركا.
يعثر فريق البحث على خزنة يعود بها الى سطح السفينة، وبعد أن تفتح أمام شاشات التلفزة العالمية لايعثر الخبراء إلا على كمية من الطين والأوراق التالفة وبورتريه لشابة حسناء يتوسط جيدها قلادة.
تتصل امرأة عجوز برئيس الفريق لتخبره بأنها تلك الفتاة التي في اللوحة وأن العقد عقدها، وهكذا يتم إحضار العجوز السيدة روز الى سفينة البحث لتدلي بشهادتها وتسترجع سيناريو الكارثة عبر فلاش باك طويل يستغرق المدة المتبقية من الفيلم.
- وهكذا تبدأ خيوط الوشيجة الانسانية في التشابك والتعقد بدءا من تعرف الفنان الشاب جاك على الثرية الارستقراطية روز المخطوبة لشاب ثري يسافر في ذات السفينة، وانقاذه لها - اي جاك - من الموت غرقا بعد أن حاولت القاء نفسها في المحيط بسبب ضيقها بهذا الزواج وتقاليده الارستقراطية الصارمة . تنجذب روز إلى عالم جاك البسيط وسط رفض العائلة ومحاولات الخطيب الثري للايقاع بجاك وتلفيق التهمة له بسرقة جوهرة زرقاء كانت روز ترتديها ثم يأخذنا المؤلف الى سلسلة من الاحداث المشوقة تنتهي باصطدام السفينة ومحاولة ركابها للنجاة.
يظل جاك في مياه المحيط طوال الليل ممسكا بجزء من حطام السفينة تتمدد عليه روز حتى يموت متجمدا وتنجو هي بعثور سفينة أخرى عليها.
ويبدو أن قصة الحب هذه هي الجوهرة الحقيقية التي عثر عليها فريق الغوص بعد 3 سنوات من البحث، ويبدو ما سبق تلخيصا لابد منه لتتابع المشاهد في الفيلم بغية إشراك القارىء في التعليق والمتابعة.
-3-
يمكننا أن نتحدث الآن وبعد عرض موجز لتتابع المشاهد في تايتنك عن الجماليات البصرية التي يثيرها الفيلم في حواس المتلقي العادي والمتخصص على السواء.
ويمكن القول إن وشيجة الحب الخافت والضاجّ في آن والتي نسجها كاميرون مخرج الفيلم قد نجحت في إنقاذ الفيلم من الغرق بعد أن غرقت السفينة الباذخة ومعها مائتا مليون دولار في الأطلسي!
لقد كان عشاق الفن السابع بحاجة الى ملحمة رومانتيكية هائلة تعيد الى حواسهم شيئا من الهدوء الانساني والدفء الذي افتقدوه في غمرة الصخب والعنف والضحك الاستعراضي مع موجة أفلام تحتفي بالحركة والإبهار التقني والاستعراض، ولهذا السبب يواصل تايتنك حصد النجاحات محققا بعد أسابيع قليلة من عرضه أكثر من اربعمائة مليون دولار في دور العرض العالمية، وما زالت عروضه وايراداته مستمرة
إن تايتنك ليس مجرد فيلم ممتع. إنه من تلك الأفلام التي تحتشد أيضاً بجماليات بصرية وثراء فني لافت بدءاً من إيقاع الفيلم وحركة الكاميرا وسلوك الاضاءة وغيرها من أساسيات صناعة الفيلم.
وإذا كان الإيقاع عنصرا أساساً في بنية أي عمل فني سواء كان هذا العمل شعرا أو رواية أو موسيقى فإنه في الفيلم جوهري لوصول العمل الى العين بالشكل الذي يضمن معه المخرج أقصى طاقاته التأثيرية.
وقد وفق كاميرون في ضبط المدد الزمنية للقطاته لتتوافق بشكل متقن مع طبيعة الحركة والموقف الانفعالي والدرامي للمشهد نفسه بحيث بدا تقطيع اللقطات رافدا متقنا للجو الذي تعبر عنه اللقطة سواء باستخدام التقطيع السريع في المشاهد التي تصور الذعر والهلع الذي أصاب ركاب السفينة بعد الاصطدام أو التقطيع البطيء في مشاهد أخرى يتطلب نقل حمولتها النفسية تمددا واسترخاء في زمن اللقطة.
وبالتنويع بين هذين الأسلوبين الايقاعيين استطاع كاميرون احتواء حركة ابطاله وانفعالاتهم مثلما حركة الماء والأجسام المادية في مشاهد الفيلم ( ليلى الاحيدب مارست هذا المزج الايقاعي السينمائي بنجاح في قصتها (حركة - صنم).
ومن الأساليب التي استخدمها المخرج ايضا لإثراء إيقاع تايتنك أسلوب المزج (1) في تنفيذ القطع السينمائي بين لقطة ولقطة لتخفيف الشعور بالقطع الزمني وإذابة زمنين في مجرى واحد.
والمزج (أسلوب لتركيب لقطة فوق اخرى بطريقة يتم فيها اظهار شكليهما يمتزجان او يذوبان في بعضهما) وقد نفذ كاميرون هذا الاسلوب في أكثر من مشهد للانتقال من زمن الكارثة الى الزمن الحاضر وبالعكس، ففي مشهد ما تقع عينا العجوز وهي تتذكر الكارثة على تسريحة أثرية نادرة تخص غرفتها في السفينة الغارقة. تظهر التسريحة بخلفية رمادية مضببة مما يضفي ضوءا عتيقا من الغموض والحلم وجلال الآفل. ما أن يقع بصر روز على التسريحة حتى تعود الكاميرا الى ذات اللقطة الرمادية وهي تمتزج وتتحول بفعل ماء نظرة روز.
كأن النظرة على الأثر تغدو حمض تظهير للذاكرة والأثر، وهكذا تمتلىء مسامات التسريحة الخشبية والمرآة بلونها الطبيعي، ثم تبتعد الكاميرا ويتسع مجال اللقطة ليظهر باب الغرفة وتدب الحركة في المشهد بفتح الباب ودخول جاك وروز قبل الغرق بساعات.
ذات الأسلوب يستخدمه المخرج بشكل عكسي لتركيب ثلاث لقطات في لقطة واحدة بعد أن ينتهي جاك من بورتريه روز، إذ يمتزج وجه روز مرسوما، بوجهها في السابعة عشرة، ثم بوجهها بعد المائة أثناء سردها حكاية البورتريه لفريق البحث في دلالة زمنية تعني وتختزل الكثير.
ولتجسيد الثراء والتنوع الذي حمله عنصر الزمن في الفيلم يستخدم كاميرون إلى جانب الأساليب الايقاعية السابقة أسلوب الاختفاء بمعنى امحاء اللقطة تدريجيا واسودادها على الشاشة لإنهاء مشهد أو زمن والانتقال الآخر الى جانب الاضاءة الزرقاء الخافتة أو الرمادية لمشاهد الفيلم والضبابية التي كان يمنحها التركيز البؤري للكاميرا في بعض المشاهد مما ساهم فعلا في ايصال الصدمة البلاغية لجوهر العرض: الحب، والزمن.
-----------------------------
-1- استخدم الشاعر الاماراتي عبدالعزيز جاسم هذه التقنية السينمائية باتقان في قصيدة ·فوق نظرتها مشت عربة
* نشر المقال في جريدة الجزيرة السعودية (12 مارس 1998)، وأعيد نشره بمناسبة إعادة عرض الفيلم هذا العام بتقنية الثري دي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق