الاثنين، 22 فبراير 2016

يريد أشياء قليلة









كان ينفذ خطة واضحة
 للانتقال إلى لا مكانٍ 
 ولا أحد.

وكان كلما أطفأ شمعةً؛ سقطت مدينةٌ من قلبه.


 في الثلاثين تخفّى في الأطراف الشاحبة للعاصمة.
 في الأربعين رأى ناراً في بلدة الأم.
في الخمسين بدا كقاتلٍ، 
وأحب هواء القرى التي لا يمر بها أحد.
في الستين سقطت عن كتفيه المدن
فانتبذ إلى قرية صيادين ملقىً بها على البحر.

ثم قل عدد الذين يفكر بطعنهم في السبعين،
وأحبته الأسماك. 


*** * *** 



كان يفهم حزن الكلاب التي في الحدائق العامة تقتل الوقت. 

وكان

يريد أشياء قليلة:
يريد مدينة كي يشفى من مدينة.
يريد صاحباً كي يحكي له عن صاحب.
يريد حبيبةً كي يقنعها بالتوقف عن الحب.
يريد أماً كي يصف لها أدوية أمه الميتة.
يريد قهوةً جيدة في النرويج
ليحكي لها عن القهوات السيئة التي تعرض لها في حياته.

يريد جداراً كتوماً بصورة رماديةٍ لبورخيس
كي يروي له مغمضاً 
القصص المملة التي لم تحدث
 لجدران البيوت التي آوته.

يريد طبيباً مأجوراً
يخلصه من الأجنة التي تركل بطنه في الليل.

يريد دمعة فتاةٍ من لشبونة
 كي ينقذ السفن التي تحترق فيه منذ عقود.

يريد قارورةً جديدةً
 كي يكسرها وهو يخبرها عن العطور التي وشتْ به.

يريد قراصنةً
 كي يسترد عينه الغائرة
 من طفلٍ يشاهد بها الرسوم المتحركة.

 يريد أوسمةً 
كي يربطها مع الأعشاب حول ركبتيه.

يريد صلاةً  كي يصلي للآخرين.

يريد قرامطةً كي يطوف، وعطارين كي يطحن زهرة شبابه، وحلّاقين كي يتخلص من الخوف.

يريد كلاباً سلوقيةً ينقع أقدامها في طاسة حناء 
ويركض وراءها حتى الموت.  

ويد والده الضخمة
يد والده الضخمة يريد

 كي يصفع الآباء الذين يأتونه في النوم.

الجمعة، 12 فبراير 2016

سماع








كانت تفاجئونا أغنياتٌ كلما خرجنا من البيت.
 وكان الهواء تسليةً ولعبة أصوات.

 إبرة البث لم تكن محميةً من عيون الطير أو قوادم الأغنيات.
وكان للأمر علاقةُ  بأشكال الهواء الذي يلفنا وتقاسيم الغيوم والنور.
ففي مواقف القبو تزدهر كانت نقرات السيتار وصوت مغنيات الهند.
وفي مواقف السطح المجاور للسوق كانت تهبط أغنياتٌ من مقاهي بغداد.
أما حين نهبط الوادي المطل على قصورٍ قديمة فتبزغ أغنيات نادرة من باريس الستينات.
لم نكن في السيارة نبحث عن موجة أو مغنين.
كنا نقودُ في كل اتجاه وكانت من لا مكانٍ تهبط الأغنيات. 


النفق الأخير في المدينة كان بحراً من وشوشات عصاةٍ وأنبياء وأشواق أسماك وُجدت بقاياها في الصحراء.
وما أن  يبتلع النفق المركبة حتى تختفي المحطات المبرمجة وتتشابك في هواء النفق حروفٌ قدسيةٌ مع أناشيد رعاة وآلات نفخ وأكورديونات.


في السيارة يبدو النفق الأزرق مقبرة بحرية، والمصابيح الصفراء أرواح موتى لا تزال حائرة تطفو منذ عقود.


كأن الأصوات المتشابكة كانت أمنياتٍ أخيرة تم دفن برادتها مع الأموات. 

 كانت تفاجئونا هجمة الأغنيات
التي كما لو كانت تظننا آخر الأحياء الذين احتفظوا بقدرتهم على السمع.


وبدا أنهم حين دكّوا الأرض لتسهيل المرور
 شتتوا الكثير من الموتى والأغنيات.