الجمعة، 8 يونيو 2018

حكت لي الأخشاب




حين انتهينا من نقل الأثاث للبيت، نمتُ من التعب على خشب الباركيه. كنتُ مكشوفاً فحدثتني الأخشاب.
أخبرتني عن العائلة التي كانت تسكن البيت
حكت لي عن يقظة الأب المبكرة بلا هدفٍ واضحٍ كل يوم
عن المثانة العصبية التي تعذب الأم
ورقصة الطفلة الكبيرة في الغرفة الضيقة على موسيقى السبعينات

حكتْ لي الأخشاب
عن شجاراتٍ كانت تمتد طيلة الليل 
في منزل الجارة العجوز التي عاد ابنها من الحرب
وعن أشباحٍ مهذبة لا تستطيع مغادرة البيت منذ عقود،


حكتْ لي الأخشاب عن الألم الذي تسببه لها ساعة الحائط
والجرح الذي تتركه قطرة الماء في الحوض
والقرف الذي تشعر به من تسكع الفئران فوقها آخر الليل

وأخبرتني عن خطوات ثلاث سبقتْ وصولي إلى البيت
خطوة الأب الثقيلة فوقها كمرساة 
خطوة الأم المائلة في أيام الطمث
وخطوة البنت المليئة بالموسيقى والبروزاك
وأن البيت الإنجليزي قبرُ خشبي صغير،
 لا يمكن استخدامه مطلقاً للنجاة.

وقالت إن الخطى هي الناس، وإن أقدام الناس هي الشيء الوحيد الذي يمكث في الأرض. 

 قالت لي أخشاب الأرض إنها شعرتْ بفراغٍ وأسى كبير 
 مذ مشيتُ فوقها بالأمس
وإنها وجدتْ خطايَ بيضاء تماماً كالصحراء
لا تتركُ صوتاً ولا ثقلاً ولا حكايات
وإننا موعودان معاً بصمت أبيضٍ طويل

وقالت لي بوضوح: ما جدوى أن يقوم شبحٌ مثلك بدفع الإيجار؟ 
كان بإمكانك أن تجلس مجاناً أمام النافذة، وتنتظر بلا طائل، مثل أشباح كل البيوت. 


الأحد، 15 أبريل 2018

كيسُ شايٍ تؤذيه الكلمات





أنا كيسُ شاي الإفطار المخلوق للغمر مرة واحدةً ثم الاختفاء.  كيس الشاي الذي كان حرياً أن يُفتضّ لمرةٍ واحدةٍ ويغادر بعدها إلى النسيان . لكن يداً ما تمنع عني ما يستحقه كيس شاي بسيط. وبدلاً من أن تهضمني شاحنة النفايات في الليل، يقوم غرباءٌ بتجفيفي وإعادة استخدامي كل صباح.

 أنا كيسُ الشاي البسيط الذي يشعر بالذنب. انطفأتُ منذ أولِ ماء، ولم أعد أملك شيئاً للأكواب والشفاه التي أُقدّم لها صباحاً بعد صباح.

وأنا هنا الآن كي أقول للأصدقاء الذين يجيئون دوماً متأخرين: لستُ سوى كيس شاي أنهى مهمته في دماغ شخص ما. 
أقول للأصدقاء الذين لا زالوا يرسلون إلى قبري أشعاراً مترجمةً وأغنيات: لا فائدة مني ولا فائدة من أي شيء. فلأنني فقدتُ عيني قرأتُ كل شيء. ولأنني فقدتُ قلبي سمعتُ كل شيء. والآن ما عدتُ أملك طاقةً لسماع العصافير، وتؤذيني الموسيقى والكلمات التي تدار كل صباح.

أقول للأصدقاء الذين سأخسرهم بعد يومين من صداقتنا: كان الزمان عميقاً حين كانت دورة حياة كيس الشاي أقصر من سيجارة في شرفة. حين كان الصبية يغطّسون كيس الشاي بخفةٍ  في أكواب الورق، ثم يقذفون بالكيس الرطب بشكل هستيريّ إلى سقف المقصف المدرسي. كنتُ قريباً من السماء حين كان الكيس المشنوق يُترك وحيداً ومنتصراً كالأموات،  والسقف الأبيض الشاسع يصير سماء مليئة بمناطيد الشاي. 

وأكثر موهبةً من القبلة الأولى أن تكون لديك شهادة وفاة. أن تربي أسلاك روحك الشائكة، فلا يفكر أحد بغمركَ في شايه الصباحي.

حدث هذا لثلاثة أكياس شاي تشابكت خيوطها في برطمان الشاي منذ سبعة أعوام. تركتُها في حالها. لم أخدرها أو ألقي بها في إبريق. وكم هي سعيدة أكياس الشاي التي ييأس منها الآخرون. 

الجمعة، 9 مارس 2018

منام





الحلم غابتي الحَرام. مرةً أُنقذُ فيه غزالةً من سهمٍ طائشٍ فأشاهدها تهرب مع كلاب الصيد، ومرةً أصير فيه قمراً فيأكلني الذئب. لستُ منيعاً من الحنان رغم أنني مسيجٌ بدموع قديمة خضراء. أدفن قتلاي تحت العيون أو في كدمات زرقاء في قصبة الساق. في ظهري تنبتُ كرة تنس صفراء تجعلني أنام على شقٍ خائف. أسمع أنين الأشباح وهي تتبادل كسر الإرسال بين كتفيَ طيلة الليل، وأبصرها تشرب أحلامي كي تستطيع البقاء على قيد الحياة. رأيتُ في النوم امرأةً تشبه النجاة، لكنني ما رأيتُ حقاً سوى شَعرها الأزرقِ الكسير. ورأيتُ أنني أقيمُ في منزل غرباءَ بحقيبة ليس فيها سوى مشطٍ بأسنانٍ لبنية. وكنتُ لا آكل شيئاً ولا أسمع موسيقى. وكنتُ أبحث بلا سببٍ عن حرف الكاف طيلة الوقت. وكنتُ حين أشعر بجسدي يختفي أفتح الحقيبة تحت الحوض وأمشط شعري بذعر خنزيرٍ بريّ. وحين استيقظتُ كانت ليمونةُ على فمي وكانت في عيني ريشةٌ من جناح غراب. يا إصبعي يا مختصر الشؤم والأخطاء. يا يدي يا مقص خِياطةٍ في حلق الحصان. أنا النقطة التي تشرب الكون، والدلفين الذي يخلط بين القفز والنسيان. أنا النهر الأبيض الذي يطلي أظافره بالطمي والقهوة ويواصل الغثيان.