الجمعة، 11 سبتمبر 2020

الليل

 




تأتي الحقيقة في الليل لأنها الليل.

يعمل الليل بطرقٍ لا سبيل لفهمها. يرتجل أداءه كل يوم. يلف جبيرته السوداء كي يليّل المخلوقات. يستعمل أسماء لا حصر لها تتيح له تغيير جنسه وتجديد ضحاياه. 

نحن لا ننام في الليل. يناومنا الليل، وينجب منا قطعاً صغيرةً مظلمةً كل مساء، يطيل بها سواده الجريح. وكلما وُلدَ فينا ولدٌ يبكي طالت رموش الليل. كأننا كحل هذا الزمان القديم.

والذي نعرف عن الليل هو الليل. لكن الليل شخصٌ كتومٌ لا يذيع أسباب حزنه القديم. عاش حياته جائلاً بين خطوط الساهرين، متنكراً كالغجر، تائهاً كالألواح. فصار لكل ناسٍ ليلهم، لكل لسانٍ أسلوبه في تسمية الرمل، ورجم الوضوح.

في البدء كان الليل، ثم قال الرب (ليكن نورٌ). وهكذا لا يجيء الليل، لأن الليل موجود قبل مجيء الكلام. 

كلامٌ لا مستقبَل له هو الليل. وهو الملك الذي يبحث عن ملكه الضائع كل يوم.

 

( ل ي ل ) هو صوت الليل الأول، لأن آلهة النهر ورعاة الثأر كانوا يحتاجون إلى كلمةٍ قابلة للثني والإنشاد.

 ل ي ل: كان اختياراً ذكياً كي تتمرن الياء بين أنشوطتين، والشعراء بين سريرين.

احتاج اليائسون الأوائل إلى ثلاثةِ أوتار ٍكي يخترعوا أغنية الليل. 

ل ي ل .... اسم الليل الأول الذي ابتكر مواويل الندم، وشق بطون الصحراء : يدّعي الإنسان شيئاً لا يملكه، فيناديه رغم أنه ليس له: "يا ليلي يا ليل". 

 

حين تاه اليهود سموا الليل (ليلى)، أما الرعاة فاكتفوا بالجمل الفحل (ليل)، تاركين (ليلى) للنسخة الأشد ظلاماً من التهجد والخمر. وهكذا في ليلة ليلاء فقد الشعراء طريقهم إلى البيت. 

أفكر في الأصوات الرديئة التي سكّتها أوروبا لليل.

 أسماء هجينةٌ لا تليق بانبساط الليل. حروفٌ لا تصلح للغناء والترحال: نوكس/ إنوي / نوتّي/ ناخت/ نوتشس/نوتش / نات/ نوت/ نايت : أسماء الليل الشقراء التي لا تصلح للحداء، أو فرد عجينة القلب. 

 

لا أفهم مثلاً قبائل الجرمان التي سمّتْ الليل (ناخت)!

الخاء في الليل حبلٌ أجشٌ يخنق الليل . شيء يشبه سحبَ سنديانةٍ من غابةٍ سوداء، وسحلها على الأسفلت. 

 بالغت فرنسا في التأنث وهي تطلق على الوحش الأزرق اسمَ صبيةٍ بتنورةٍ فوق الركبتين: (نوي)! 

 المحارب الصليبي الذي يقطر النبيذ من لحيته ينادونه (إن وي)! كما يصفّر عصفور عابرُ أول الصبح! 

دانتي حاول في شتاته أن يمنح روما ليلها الخاص، فسمى الليل nutti!

اسمٌ يشبه قفزةَ فرحٍ أو اسمَ راقصةٍ لعوب. أعطى دانتي الليلَ اسماً بحجم عنكبوتٍ شقي لا يستطيع تجاوز الدور الأول من الجحيم:نوتّي. 

في القارة الزرقاء شاءت الألسنُ أن يصبح الليل أنثى، مثلما أسبغت أنوثةً على القمر الحزين. اجتمعت أنوثة القمر بأنوثة الليل فكانت النتيجة أنوثةً مبالغاً فيها قتلت الإثارة، ورققتْ جلودَ الشعراء. أفسدت أوروبا طباع الليل. اليهود والرعاة احتفظوا بذكورة الليل والقمر فكان الأمر لعنةً، وصحراءَ لا أمل في الخروج منهما إلى شيء. 

ملوك انجلترا وحدهم، كعادتهم في أن يكونوا وحدهم، قرروا أن يجعلوا الليل بلا جنسٍ، والقمر كذلك، مثلما قرروا أن يجعلوا طعامهم وعيونهم بلا شكلٍ ولا روح. وهكذا كان ال (نايت) الإنجليزي: ظلامٌ في صحنٍ بارد، بلا جنسٍ بلا رقةٍ أو خشونة، بلا هويةٍ رغم السهرات الطويلة لشيكسبير على الشرفة التي ليس لها وجود. 

 

لا ليل يشبه ليلاً. صوت الليل الذي خرج من فم المسيح كان (ليلى)؛ موجٌ آراميٌ مشبعٌ باليود والصدى والخوف. من أجل ذاك يتخلص الرب من الليل في الآخرة (لأن ليلاً لا يكون هناك). وبذا يعرف المرء أن الليل الذي عشنا في حضنه العمر لم يكن لنا به شأن على الإطلاق، فكل هذا الليل الذي رعى في العيون، كان رجلاً غير قادرٍ على الموت. 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق