تحدثنا طويلاً عن البحر.
..................................................
والبحر شخصٌ باردٌ لا يحب الحديث عن صورته ولا يدافع عن نفسه.
هو الصدع والماء والريح والنار. كيف للأشياء كلها أن تتحدث في موجة واحدة؟
تحدثنا عن البحر هذا الصباح.
رأيناه عالقاً في زرقة بالية. مبللاً طيلة الوقت بالعالقين فيه. متهماً بالقتل والغدر.
مثقلاً منذ مولده بدعوات الهاربين فوق ظهور السفن. بصلاة الغارقين في جوفه الأحدب الطويل.
وأقول إن البحر ساحة حرب. لكنه لم يختر الحرب. فلماذا نلوم البحر على الذين اختفوا فيه؟
أفكر أن الغضب الذي يطبع البحر ليس غضب البحر.
أن غضب البحر هو غضب الآخرين.
أنه مزاج الآلهة وشقاق الأرض مع نفسها منذ وقت طويل.
وقد خرج الأمر عن يدنا الآن. لأن البحر قبل قدومنا للحياة كان فكرةً مرتجلة لم تُصلح الحياة.
لأن العشبَ الأزرق نزوةُ الألواح.
لأن الماء خطأ اليابسة، والمحيط العظيم ندم السحاب.
قلنا كلاماً جارحاً عن البحر.
قلنا البحر ذريعة السلطان ومرايا اليأس الأخضر. يحيطونه باللعنات واللحوم الطيبة والمجد والموت.
باسمه يقتلون وله يقدمون القرابين. يزوجونه العذارى ليهدأ والأنبياء ليؤمن.
يعلّقون حدوةً صدئة فوق صدره كي يبطيء السير.
يكشفون له الأثداء الغضة كي لا يجذبهم إلى الأعماق.
لكن البحر ليس فاجراً أو كافراً أو مهووساً بنيل شيء.
البحر يأس كبير. لا الأجساد ولا الكلمات تصل إليه.
فالبحر عالق في نفسه مثلما أننا عالقون في سوادنا القديم.
يعلم أنه يذهب ذات يوم إلى الجحيم.
لذا يكتفي بتمرير حزنه بين قارتين، كاتماً سره كل يوم في آذان غرقاه.
تحدثنا طويلاً عن البحر.
عن الحب والقيء والموت والمعجزات. عن القراصنة والأوبئة. عن الصيد والعاصفة. عن الريح الطيبة والخيانات.
ثم توقفت أصواتنا فجأة في منتصف البحر.
وفقدنا كل شيء
حين فقدنا الريح.