الجمعة، 29 يونيو 2012

أكباد الإوز



 تبدو مقاومة المرء لطبيعته نوعاً من المجد لأن المرء قد تمت هندسته بشكل مضمر ليلتذ بأشياء مشوهة.  يحدث هذا لأن الأشياء المشوهة لا تبدو كذلك  في الظاهر، وعلى المرء أن يستمر بهدم نفسه باستمرار كي يصلح من شأنه.
 تمت هندسة المرء كي يكون مستلباً لفخاخ النظرة والعطر والحلوى والوتر والحرير، كما تمت هندسة المرء أيضاً ليندم، حين يكتشف بعد دقائق من عمى معسول أن نزوعه المخدر بالحواس هو في الحقيقة مشروع بكاء.

 في الصين كانت أصابع أقدام الفتيات الصغيرات تربط بشكل معقوف لفترات طويلة لإحداث تشوهات عظمية في أقدامهن قبل الحصول حين يكبرن على مشية أنثوية مشوهة فيزيائياً، لكن العمى المعسول يجعلها تبدو مغرية ، تماماً مثل مشية القطا المترنحة التي كانت ترضي غي الشعراء.

في اليابان يعمى الإنسان أيضاً حين يتعلق الأمر بمائدته. فأفخم اللحوم البقرية في العالم والمعروفة بلحوم الكوبي اليابانية، هي ثمرة تقديم الجعة للعجول و عمل جلسات مساج لها كي تتخفف عضلاتها من ضغوطات الحياة وتصبح دمثة لينة العريكة ومهيأة لأن تذوب في أفواه الأثرياء. 

إن مشهد صرخات العجل الياباني المحاط بستة أخصائيي مساج وشخص سابع يلقم العجل ستة زجاجات بيرة يومياً فضيحة إنسانية لا يستحضرها الأثرياء بطبيعة الحال.

لكن حين يتعلق الأمر بالإوز فإن طغيان الحضارة الفرنسية يتعدى تجهيز الضحية عبر تقديم الخمور، إلى تغذية جبرية موجعة ومستمرة لصغار الإوز بواسطة قسطرة معدنية طويلة تشبه القمع. والهدف من القمع المعدني هو توصيل حبوب التسمين مباشرة لمعدة الطائر قهراً وقسراً كيما تسرع الأكباد بالنضج وتوضع على المائدة بسعر فاحش.

هكذا هي سماء الأثرياء لا تتعفف عن كبود الإوز. وكما يقوم العشاق ب(تزغيط) الحنين وتربيته بلا هوادة، يقوم الفرنسيون بتلقيم الإوز قسراً كي يقطفوا آخر الأمر أكباداَ طرية شهية مكتظة بالدهن، أو ما يسميه أهل الألزاس: الفوا جرا.

حين تقع مفردة (الأكباد) على الأذن العربية يطير المعنى مباشرة إلى الأطفال، فهم في اللغة (أكبادنا تمشي على الأرض). لكن المطعم الباذخ في أحد ناطحات العاصمة الصحراوية أفسد المعنى في أذني وخلط مشهد الأطفال بأصوات الحبوب المسحولة والمنثورة في القسطرات المعدنية، وأكباد الإوز المتضخمة، وبمؤخرات الإوز المدماة ومريئها المتقرح جراء التلقيم القسري البشع.

 كان الزميل الذي دعاني للمطعم المعلق بين السماء والأرض يتلذذ بتناول صحن مقبلات من الفوا جرا بينما كنت سادراً في شريط تاريخي لاهث مستلهم من أكباد الطيور والبشر بالغت فيه مخيلتي تحليقها حد محاولة تفسير عابثة لحادثة (آكلة الأكباد) التاريخية التي تحكي قصة امرأة عربية مضغت تشفياً كبد قاتل أبيها. ورحت أتساءل لماذا الكبد كوسم انتقام تارة، ولماذا الكبد أيضاً كمتعة مخملية في سماء الأثرياء والفحول.

فكرت أن الكبد عضو شريف ومبجل لدى العرب بدليل أن (الكبد الرطبة) في التراث ترمز إلى الحياة، و(ضرب أكباد الإبل) يعني بذل أقصى الجهد في الترحال، و (فلذات الأكباد) هم الأطفال، والعاشق العربي حين يشتكي من غياب الحبيبة يقول إن الحبيبة أتلفت كبده وأشعلتها ...الخ

تأملت بقرف أكباد الإوز الناعمة التي يلوكها صاحبي بلذة وخطر لي فجأة أن سرب إوز يعبر لحظتها فوق رؤوسنا المخملية، وتذكرت، ويا للمفارقة، أن مدربي القيادات البشرية لا يكفون عن استخدام طقوس وممارسات الإوز أثناء طيران أسرابه في مواسم الهجرة كصورة ملهمة لتدعيم فكرة روح الفريق، وهي لقطات من فيلم متداول بكثرة لدى المهووسين بالتنمية البشرية، ويظهر أسرار نجاح الإوز في تطبيق مفاهيم إدارية ومباديء عاطفية خلاقة أثناء طيرانه. 

يثني كثيراً صاحبي على ليونة الفوا جرا وذوبانها في الفم بنعومة، ويتحدث بخبث عن معتقدات شعبية تربط أكباد الإوز بالفحولة.

 أما أنا فأحاول إفساد بهجته بتلفيق دراسة حديثة تربط بين الفوا جرا وتشمع الكبد. حينها يلعن قلة ذوقي بينما أبتسم وأرسم باصابعي تحت الطاولة، وبشكل سري، علامة انتصار (V) كتلك التي تصنعها أسراب الإوز التي سلمت من عناية البشر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق