النوم شيءٌ واضح. يقيسونه
بالغياب والغطيط. بالصمت والأنفاس. يدركونه في هدوء وهجوع القطارات التي تحفّ
الليل. يبصرونه موجاتٍ صاعدةً وهابطة، ضحلةً وعميقة، في معمل النوم.
النوم شيء واضح وعميق. مثل بئر من حليب وضباب
شهي. رأيته بعيني بقعةً زرقاء ضخمة، فوق المقاعد الضيقة في الطائرات التي تعبر
الماء. أبصرتُه جناحاً هائلاً أبيض فوق أسرّة الفنادق المسمومة المريحة. رأيته وسط
المدينة، يكلل رؤوس المشردين السكارى في خيامهم المنصوبة أمام محال الذهب. ولطالما
رأيته ممتداً، مثل صرخة، في عيون النساء المثقلات بالأمل والحليب. أعرف النوم
جيداً مثلما أعرف الماء. وأعلم كيف ينسربُ من أجساد الآباء الذين اخترقتهم طلقاتُ
الأحلام. النوم شيء واضح وشفيف، مثل ماء لا يمكن الشرب منه. الآخرون يدخلونه كما
يدخلون قبراً واحداً كل مساء، وأدخله مثلما أدخل مقبرة كاملة، بشبكة قبور مفتوحة،
قبراً قبراً أدخل النوم ولا أموت. أذهب للنوم كما تذهب الزرقة للبحر، والحوريات
لكتب الأطفال. أحدق الآن في سقف الغرفة وأشاهد صليباً ضخماً من أخشاب القلب ومن
صحراء ورائحة بنزين، ثم مكبلاً بالجن والصمت، أحبو في ظلمة قاهرة، فوق بلاط بارد
تحت الأرض. أتلمس شللي في مغطسٍ أسود، في بيتِ شخص غريب. أسمع غطيطه وأخاف نجدته
لي، لا أدري كيف وصلتُ إلى خلاء معتمٍ لا باب له، وأهمهم بفزع من يرى خروج الروح:
كيف سأخرج من ظلام نفسي إلى النوم؟ أجزعُ، فأرى الأحلام التي تحلم بها الوالدة تحت
الأرض، أسمع تكّات ساعة (الصليب) تجلجل فوق يد أبي الغارقة في النوم..
أنا لا أنام يا أبي. أعرف كل
القصص وكل الأكاذيب ولا أعرف الموت. مضت الحياة بكامل عريها أمامي وما عرفتُ شهقة
النوم. وما عرفتُ الكلام لأنني أخسرُ كلمةً كل يوم. لأن النوم جرحٌ واضح، كاملٌ
وحقيقي، مثلك أيتها المرأة الغريبة التي تعرف عني كل شيء، ولا أستطيع الحديث معها
عن أي شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق