قسوة الوقت في اختفاء
العابرين. الغرباء الذين يرفعون حياتك على أكتافهم كل يوم وهم يبتسمون. أصحاب
المهن القاسية والوجوه اللينة. تقسو الحياة حين تأخذهم من أيامك المتشابهة. بدونهم
يغدو النهار ثقيلاً والوظيفة عاصفة مفاجئة.
وصلنا مبكراً إلى الخمسين، حيث الدم
يصبح تراباً، والأصدقاء غيوماً، والحب ندبة قديمة. وأدركنا أن القسوة الحقيقية هي
اختفاء النادل لا الحب. في اختفاء صبي الشاي الذي صبغ المكتب بروحه الهادئة لعقود. أن الصدمة
هي الخروج النهائي لحارس العمارة الذي ألفتَ رؤيته لسنوات. والألم العظيم في ضنك
البحث مرة أخرى عن اليد، والتآلف مع حلاق جديد كل عامٍ أو عامين بسبب رحيل حلاقك النطاسي،
أو رحيلك أنت، بسبب سفرك المعتاد بلا نهاية إلى كل مكان ولا مكان.
الهامشيون في يومك هم جذور الوقت. حين ينتقل أحدهم
من مكانه تصاب بالدوار. والحلاقون تحديداً أسوأ الراحلين. الحلاقون أطلس العالم
الحقيقي. تلك الأيدي التي تعجن وجهك في الأسبوع أكثر من أي يدٍ مرت بك. الأيدي
الغريبة التي لمستك أكثر من والديك ومن طفليك. تغمض مطمئناً لها مثلما تغمض ليد
أمك التي كانت تحممك أو تخضب رأسك الصغير. تثق بحلاقك الأثير أكثر من الأطباء
والمعالجين. تمنحه رأسك كاملاً فوق قطيفة خضراء ليأخذ منه التعب والحزن وكدمات
الأسبوع الطويل.
هذا مكان تتسع الروح فيه. صخبٌ يحضر فيه الغياب كمشهد رئيس. مكان أنت فيه النزهة والحديقة المهملة. هو ارتداد
المنزل ووردة المقبرة. مكان ملائم لدفن الأصدقاء تحت صوت المقصات وتيار مجفف الشعر. أذهبُ إلى دكان الحلاقة مثلما يذهب الإنجليزي إلى الحانة. أرتمي هناك في التبدد
والنسيان. لأن الجلسة مع حلاق عارف سكرة ضد تدفق العمر. الارتماءة الحرة على كرسي حلاق الحي عودة
اللون إلى وجهك المخطوف. جلسة في مرتفع من أجل هدهدة النهر الذي ماتت فيه الأشياء. المريلة
التي يضعها فوق جسدك وعنقك الجريحة تلمّ الضوء والكلام الذي تكسّر فيك. جسدك على وشك
الخدر. النطاسي يلقي نظرة عميقة عليك. صوت القداحة واشتعال لهب الكحول وقت تعقيم
الموسى مَطهرُ وطقس تعميد كل أسبوع. رغوة المعجون التي ينزلق فوقها الموسى على خدك لها
نشوة الذهب في كؤوس الجعة الزجاجية الضخمة المتألقة في الساحات. من أجل ذلك تنزلق
الأحاديث في كرسي الحانات المرتفع وفوق كرسي الحلاق. وأعرف أنني كنت سعيداً في
غيبوبة الحلاقة أكثر مما كنت سعيداً في الحانات وقصص الحب.
..............................................................
بسام. توني. عبدالعاطي. ثم سليمان.
كلهم يعرفون السر.
وكنت كلما
آخيت واحداً طار به الوقت، وأخذتني الغربة من جديد. تاريخ حياتي سلسلة منقطعة من
أسماء الحلاقين. كل واحد يعرف فصلاً من حياتي يختفي دون إنذار. كلهم
يعرفون السر. وكنت أشعر بغدر الحياة كلما اختفى حلاق تعودت على نبرة صوته وحركة
يديه. فليس سهلاً أن تضع جسدك على كرسي حلاق من جديد. الحلاقون الجدد الذين تجهلهم
غربة وأيام شقاء. في كل دكان حلاقة تسعة حلاقين وحلاق عارف وحيد. فكيف ستعثر عليه؟
يد الحلاق تشبه منارة البحر التي يقول عنها أنسي (إنها تغسل البحر من رؤاه
وشياطينه فتصبح مستوطنة شياطينه). لذا يكمن النحس في معظم أيدي الحلاقين. عليك أن
تعثر على الحلاق النطاسي الذي لا تتجمع أرواح الزبائن المتعبين في قبضة يده. على اليد التي
تقص سرّتك أن تكون خالية من أطفال الآخرين. وحظ المرء في بقائه مع حلاقه المختار طيلة
العمر. فلماذا كُتبتْ علي شقوة البحث عن حلاق أبدي لا يترك المحل؟
ألفُ خصلةٍ من رأسي سردتها
مقصاتهم على الهواء. كلهم حملوا ذات الندب في عيونهم، وذات القُطَب القديمة في
أصواتهم. لأن الحلاق العارف له وجه قبطان لوّحته المحيطات. له عيون المغني الحزين، وله سحنة القتلة والمصلين. وكنتُ دائماً ملكاً خائباً يجيء منهكاً فينام في العرش، ويحسبونه
مشغولاً بتأمل الخيل. كان البخار المسلط على وجهي يقشر روحي أكثر من جلدي. أتعرق وخطاياي
تتساقط على الأرض. كنت الرجل المهدّم الذي يغفو كل مرةٍ على كرسي الحلاق لأنه لا
ينام في البيت. هل تظن أنني لا أستطيع حلاقة ذقني في البيت؟ أقول لزميل يتهمني
بإضاعة أموالي هناك. أذهب إلى حلاقي لأنني لم أعثر على شيء أو أحد يستحق أن
أذهب إليه. اذهب أنت إلى حفلة المغني وأنا سأذهب إلى الحلاق. هل فهمت؟ قل إنه المعبد السري. جبل السهو، فجوة الفلاسفة،
ومقبرة البحر بالنسبة لي. غرفة الاعترافات أو غرفة الصمت. ما نقوله هنا ندفنه هنا،
وما لا نقوله أيضاً. هل فهمت؟
كلهم يعرفون السر. وتسربوا من يدي كالتراب.
بسام السوري. ثم توني
الإيطالي. عبدالعاطي المغربي. ثم سليمان التركي.
كل حلاق كان الغريب أو كنتُ معه الغريب.
لهجاتهم ،
وقصصهم تزدحم في رأسي منذ عقود. أعرف أسرارهم، وحكاياتهم وأوطانهم وقراهم. سردوا كل
شيء ومقصاتهم ما زالت تأكل من رأسي في النوم. تحدثوا عن الأرض الواسعة وأصابعهم تشير إلى الشيب في
ريش الغراب النائم على الكرسي.
أكلوا
خبز رأسي طويلاً. وكلما أحببتهم كانوا كالحب، يختفون.