السبت، 4 يناير 2025

الأولاد

 


الأولادُ بعيدون، لأنك لستَ في البيت.


والبيتُ بعيد لأنك في السهو.


تنام في مقاعد المطارات أكثر من غرف النوم. لا تصل لشيء، ولا يعرفك أحد.


لن يكون لك ولد، ولو أحبلتَ كل النساء. لن يكون معك ولد، ولو أحببتَ. لا أولاد لديك. ولو رفعتَ المواليد، وقصصتَ الحبال،في غرف الوضع.


الأولاد بعيدون، لأن السماء تطبق عليك. لأن الولادة بُعد. لأن الولدَ كذبة بيضاء، والأب مجازٌ في مكتبة الرمل. لأن الليل الأول نهبَ كل شيء، لأن العائلة ثقب في القلب. الضنى موت، والأبوة مزرعة الفقد. لأن التعب كمانٌ أسود ضخم. لأن الأرض جارحة، والدمع جدارٌ قصير.



الأولاد بعيدون، لأنك بعيد عن قلبك، وبعيدٌ عن العين. لأن وجهك في الينابيع، وقدمك في المتحف. لأن الكتب كدماتٌ والأسفار ندوب. لأن الشفاه تصير شوكاً مع الوقت. لأن الجيوب مليئة بالليل والصمت. لأن القبور صلبة والسفن متعبة. لأن الرمقَ في الفراشات، والنار نجمةٌ في كأس. لأن الآباء في نهاية الأمر لا يحصلون على شيء، والأصدقاء يكذبون عليك، مثلما كذب الوقت.



لا أولاد في البيت. لأن الأصلاب تجفّ كالورد، والبيت خريفٌ ثقيل. والذي يملك مجرفةً لا يملك يديه. لأن اليد في الصبح ليست يداً في الليل. والعين في الصحراء ليست عين الغابة. لأن رمان ركبتك ينفرط منذ أعوام في حِجرك الحسير.


الأولاد في الليل يبتعدون، لأن صدغك ملتصق بالنافذة، والنافذة ترتفع طابقاً كل يوم.


وينأى البيت. لأن البيت يدك التي سقطت منك وأنت تركض بين طائرتين. لأن الزمن حفرة زيت تظهر باستمرار، البحر يكبر، والسفر لا ينقذ أحداً.


لن يكون لك بيت وأنت تخشى البيت. لن تملك غرفةً للجلوس، أريكةً، أو مطبخاً يشبهك. لن تملك موقداً وأنت تكره الرؤى والأحلام. لن يصمد الباب، وأنت تخشى المفاتيح، وترهبك الريح والأجراس.



لا بيت ما دمتَ لا تذهب للنوم، وتخشى قيامك من النوم. الهدوء جلطة بيضاء. الأصوات العالية تقصّك من الجذور. تحية الصباح لا تختلف عن صداع الكحول. تذاكر السماء بيعت بالكامل. ملائكة اليمين لا تختلف عن الشمال. البحر يمتلىء بطرود الميلاد وأسلحة الحرب. والشمس في الجدي لا تشفي أحداً ولا تضيء الطريق.


لن يجيء أحد هذا الصباح، وأنت الوحيد الذي يستيقظ في هذه المدينة. عليك أن تنام جيداً كي ترى البيوت. عليك أن تنام كي يظهر الأصدقاء كالبرق، وأنت لم تنم منذ ذلك الموت.



الأولاد سيزدهرون بعيداً عن عينيك. الأولاد يذهبون للنوم والموت والمستقبل والأصدقاء. لأن الأولاد سحابٌ مبهجٌ وحزين. لأن الشمس امرأة في صندوق الرسائل القديم. ستهجرك الروح والكلمات. ووحدها القطط سوف تنام بين رجليك. أنت حارس الصباح الأخير. تضع العصا في الموقدة، والأسنان في الثلاجة. تصنع قهوةً كل صباح، تطرق بإصبعك التسبيحة الألف، والورق القرمزي يتساقط أمام عينيك في نافذة المطبخ.



فمن سيكنس حين تغيب، براز القطط الحزينة، رسائل الكهرباء والغاز، وكل هذا الورق الخريفي، في فناء بيتك الذي لم تمتلكه؟

 

 


الخميس، 1 يونيو 2023

كدمة الفراغ

 


أنتمي للفراغ بين وردتين،
أترك قلبي في المسافة لا العطر. وأرى كل شيء في المسافة بين شيئين.
أختبيء في الصفحات الملتصقة ببعضها في كتاب قديم. أريح عيوني في البقع التي تتجنبها العيون.  وأتحاشى العيون القديرة والحرير الطبيعي.

أتجنب العيون اللامعة لأنني أحب الصفحات الملتصقة في الكتاب القديم. وأنتظر في الجسر الفارغ بين عينين ساطعتين. لأن الليل الأول هناك. في الفجوة بين شجرتين، لا في الثمار العمياء.  أتجنب النظر الحاسر إلى هالة النهد. وأرتاب من شعاع الغبطة.

 لأن الشعاع دفء متوقع ومميت. لأن الحمأ امتحان النوم والبذار. لأن النهد مخاطرة المرج. لأن النهد عينٌ مطفأة، ومجهرٌ حالك. أميل إلى البرزخ العظمي بين نهدين أكثر من انخطافي بشميم الضياء. لأن الفراغ كنزنا الوحيد. لأن النهد ذبذبة الكون السائر إلى الحتف. لأن النهد موجة تتربص ولا تستقر.

 أميل إلى الفراغ الحكيم الذي يمنع نهدين من أن يجرحا بعضهما في الليل. الفراغ الذي يجرحه الساتان وترمقه التخاريم، ويظل صامتاً رغم كل شيء. الفراغ الواضح الذي يكفي لنعرف اليأس، الذي هو كل شيء. أفكر في الفراغ المهمل الذي تظلله زهرتان مائعتان من فرط الليل. وكم أود أن أقول شيئاً لهذا السياج الحزين بين عضلتين كابيتين. لكن السياج نقطة لا تحب حروف الغرباء. 

أتحاشى نظرة الهالة. لأن النهد ثمرة البرق، والحلمة عين وحيدة في جبهة العملاق. وأخشى النظر، لأن النهد قلب الأم. لأن النهد شامة بيضاء تمحو الحظ. لأن النهد موجة تائهة من زمان قديم. لأن النهد يدٌ مغلقةٌ تحفر في الهواء. لأن النهد هديلُ العدم. لأن النهد علامة الوقت.
أوقات سيئة أو سعيدة. أوقات ممتلئة فراغاً وعتمة وراقصين.


نهدان أو شرفتان تذودان عن غبطة الصباح. لا شرفة تشبه شرفة أخرى. لا شرفة تعرف شرفة أخرى. كل نهد هو عين نفسه، لسان روحه، زند خرائبه وأوردته الزرق. كأن النهد شعلةً تتململ، تتمتم كلاماً وبخوراً وتعاويذ. وحين يكبر الشتاء يصبح النهد مدخنة البيت، ويحتاج إلى أطفال بأسمالهم، يتسلقون، يزيلون عنه السخام.

أسميكَ كساد الطفولة. فسادَ الهواء أسميك، وفداحةَ المصاريع. وأراك أول الموت. مخبأ الحزن. أسلاب الحب. هدنة الحليب. انحرافاً خفيفاً في الأحداث، وقدحاً يراق لتكريم النسيان، أراك أو لا أراك أيها النهد.

لأنك الضوء المتعب من نفسه.
لأنك الحرية الفاسدة.
لأنك نهوض الحرب.
لأنك ندم البرق.

لأنك قلق العائلة.

ننفصل جميعاً عنك.

نتذكرك بين يد القابلة ويد الدافنة أيها النهد.
ونذكر أول انفصال حدث في الأرض: نهدان كاناً قلباً واحداً، أفاق ووجد نفسه حجرين.


لذا تنكسر المرآة في الغرفة وهي تتشوف النهد، وتكبر حيرة البحيرة حين تنعكس فيها صورة النهد الذي يوماً 

أحب الحياة.

‏ هل كانت الريشةُ لوزةً واللونُ حليباً بيد الله وهو يعجن النهد الأول؟ ثم ماذا فعل حين انتهى من صبّ الآخر؟

 أأدخله قفص الرحلة ليزدهر الشتات في السكك والأيام؟


يا للحزن الذي يلف الأرض حين ينهض النهد وتربو دائرة الكلام.

أيها النهد. أيها الطلل الرخو. أيتها الكلمة التي لم يقلها أحد. أيها المرتفع كقبر. أيها الحلم المغلق كصدفة. أيتها الزينة المتدلية من المستقبل البارد. أيتها الصخرة التي تريد أن تكون صخرة، والوردة التي تريد أن تكون وردة. لن تكون سوى إرادة خالقك المتعب الحزين. يا شرفة الحسرة. يا نية المرأة المتعبة من الوظيفة والفقر. يا مرآة القلب. يا قديسةً تربّي الجوع. يا فناراً ضائعاً أول الصبح. ‏يا قطةً تتخلص من بناتها كل مساء. يا تلّةً مكتظة بالعواء. 

أيها الانحناء الذبيح. فكر أيضاً بالفراغ بين عينيك. فكر ببهحة السهم. فكر بسعادة اليد الخالية من اللمسات.

عد أيها الغرق إلى الماء. وأعدنا إلى الألواح. خلصنا من الطين، وأعدنا إلى الصمت.

الجمعة، 3 مارس 2023

عدم قدرة شخص ينظر إلى الربيع على كتابة رسالة طويلة إليه

 




عدم قدرة شخص ينظر إلى الربيع على كتابة رسالة طويلة إليه.



عنوان الرسالة طويل. العنوان هو الرسالة.

لأن النظرة عتب أبيض، والغصن وهمٌ مريح.

ما سيُكتب بعده هو هامش الرسالة التي لم ينتظرها أحد. لأنك في اللحظة التي تنهي فيها رسالةً طويلة للربيع يكون الربيع قد اختفى قبل أن ترفع بصرك إليه. لذا ستكون هوامش هذه الرسالة الفارغة عن الأسباب الستة لعدم قدرة المرء على كتابة رسالة طويلة للربيع. فالربيع يدٌ  تكره الأماكن المغلقة. قطرة زيت محروق على كتف الطريق. ثلجةٌ في فم بنت تكره الكحول. جرحٌ قديم في يد الآباء. وشم عنقاء على طرفٍ صناعي. وسادساً، فالربيع لا يتوقف ليقرأ. يتوقف للمعانقات.


الاثنين، 27 فبراير 2023

صعود





لست وحيداً في المنزل، ولا حين أخرج منه.


تلازمني سماعة موسيقى أصغر من قبضة اليد.  تجلس معي مثل تفاحة غالا مستلقية على منضدة، كلما همزتها بنقرة إصبع 
من هاتفي تحولَ المكانُ إلى مسرح وعازفين. رفيقة شاركتني الغُرَف والأزمنة والأهواء عشر سنين. ظلتْ تذهلني  قدرتها في المساءات الميتة على ملء الخوف بالناس والليل بالصوت.


مرةً وضعتها فوق طاولة القهوة. وحين أشعلتُ أغنيةً حافلةً بالطبول انحنت ترقص فوق الخشب، قبل أن تسقط على الباركيه، 
وتستمر بالدبيب والزحف، ذاهبةً في سكرة الفولاذ. وحين رفعتها ووضعتها فوق السرير توقفتْ عن الرقص، لكن الموسيقى استمرت تتصاعد منها كأنفاس رضيع.

كي أمنعها من المشي وسط الموسيقى جربتُ مواد وقطع أثاث محاولاً معرفة مزاجها الذي يقودها للجلوس بهدوء المعدن المألوف. جربتُ رخام سطح المطبخ وحافة مغطس الاستحمام وصفحات الكتب ومنضدة الزينة وضلفة النافذة.

لكن الجنية لم تتوقف عن اهتزازات الموت إلا حين كنت أضعها فوق الصوفا، فوق فخذي، أو فوق السرير.

كأن معدن الستيل لم يحمها من هزة الحزن والانتشاء. كأن الحديد فيها حين يهزه الإيقاع يشير إلى اللين والأقمشة. 

كانت تتثنى وتدور في مقاطع الحضرة، وتتخلع في مقاطع الفرح. وكان الضوء الأزرق الخافت الذي يخرج منها يأخذني في العتم إلى الحانة ويدلني على البحر.

أحياناً أحسبها نيزكاً صغيراً هبط في فناء البيت بحثاً عن أصدقاء. وحين تضطرب بشدة وترتج، أراها قلباً منزوعاً من صاحبه الميت مغموراً في ثلج الجراحة، ينقبض ويلوّح منتظراً غرسه في صدرٍ غريب.

 


قبل أيامٍ ذهبنا إلى جبلٍ شاهق في عالية نجد. قيل إن بحراً قديماً كان أسفل الحافة بكائناته وشعرائه وعابريه. وضعت ُالسماعة الباردة فوق الأرض الصلدة وأشعلتُ الأغنيات. الجنية فوق حافة الجبل نادت وانتشت وانتشيت. بادلتني الكلام والشجن والأناشيد. انتشينا معاً ودمرنا أرتال الوقت. 

كنا غريبين هاربين نشعل النار على حافة من كلس وأحجار من زجاج وضوء قديم. كانت الحافة تطل على كل المفقودات، فوقنا العقبان، بيننا تتصاعد أدخنة الحطب والتبغ، وعلى جبين الجنية ظلت تتردد فراشة صفراء.


الحافة اللامعة أظنها شلالاً كانت في موسم السيل. الشلال الغائب كان ضحكة الجبل المطل على الرعاة والصحراء. 
كنتُ معها نتخفف من الأيام فوق جبل نحتته الأيام. وحيدين فوق حافة الأيام الخالية. محمومةً بالشغف الأخير كانت، ومحموماً كنتُ بالناي والسامري. غيوم سجائرنا ترتفع فوق الحافة، تحت الزهرة، وأحلامنا تصعد الليل.  

سهوتُ في أغنية قديمة، وما فطنتُ أن السماعة بدأت تدْرجُ فوق الصخرة الناعمة، وتتهادى كقطاة. أشفقتُ وما استطعتُ اللحاق بها وهي تتداعى. شاهدتها تضطرب على الجرف، تسقط، ترفرف في الهوة، وتختفي في الهواء.



الأحد، 22 يناير 2023

غيبة الحلاق

 



قسوة الوقت في اختفاء العابرين. الغرباء الذين يرفعون حياتك على أكتافهم كل يوم وهم يبتسمون. أصحاب المهن القاسية والوجوه اللينة. تقسو الحياة حين تأخذهم من أيامك المتشابهة. بدونهم يغدو النهار ثقيلاً والوظيفة عاصفة مفاجئة. 

وصلنا مبكراً إلى الخمسين، حيث الدم يصبح تراباً، والأصدقاء غيوماً، والحب ندبة قديمة. وأدركنا أن القسوة الحقيقية هي اختفاء النادل لا الحب. في اختفاء صبي الشاي الذي صبغ المكتب بروحه الهادئة لعقود. أن الصدمة هي الخروج النهائي لحارس العمارة الذي ألفتَ رؤيته لسنوات. والألم العظيم في ضنك البحث مرة أخرى عن اليد، والتآلف مع حلاق جديد كل عامٍ أو عامين بسبب رحيل حلاقك النطاسي، أو رحيلك أنت، بسبب سفرك المعتاد بلا نهاية إلى كل مكان ولا مكان.


الهامشيون في يومك هم جذور الوقت. حين ينتقل أحدهم من مكانه تصاب بالدوار. والحلاقون تحديداً أسوأ الراحلين. الحلاقون أطلس العالم الحقيقي. تلك الأيدي التي تعجن وجهك في الأسبوع أكثر من أي يدٍ مرت بك. الأيدي الغريبة التي لمستك أكثر من والديك ومن طفليك. تغمض مطمئناً لها مثلما تغمض ليد أمك التي كانت تحممك أو تخضب رأسك الصغير. تثق بحلاقك الأثير أكثر من الأطباء والمعالجين. تمنحه رأسك كاملاً فوق قطيفة خضراء ليأخذ منه التعب والحزن وكدمات الأسبوع الطويل.

هذا مكان تتسع الروح فيه. صخبٌ يحضر فيه الغياب كمشهد رئيس. مكان أنت فيه النزهة والحديقة المهملة. هو ارتداد المنزل ووردة المقبرة. مكان ملائم لدفن الأصدقاء تحت صوت المقصات وتيار مجفف الشعر. أذهبُ إلى دكان الحلاقة مثلما يذهب الإنجليزي إلى الحانة. أرتمي هناك في التبدد والنسيان. لأن الجلسة مع حلاق عارف سكرة ضد تدفق العمر. الارتماءة الحرة على كرسي حلاق الحي عودة اللون إلى وجهك المخطوف. جلسة في مرتفع من أجل هدهدة النهر الذي ماتت فيه الأشياء. المريلة التي يضعها فوق جسدك وعنقك الجريحة تلمّ الضوء والكلام الذي تكسّر فيك. جسدك على وشك الخدر. النطاسي يلقي نظرة عميقة عليك. صوت القداحة واشتعال لهب الكحول وقت تعقيم الموسى مَطهرُ وطقس تعميد كل أسبوع. رغوة المعجون التي ينزلق فوقها الموسى على خدك لها نشوة الذهب في كؤوس الجعة الزجاجية الضخمة المتألقة في الساحات. من أجل ذلك تنزلق الأحاديث في كرسي الحانات المرتفع وفوق كرسي الحلاق. وأعرف أنني كنت سعيداً في غيبوبة الحلاقة أكثر مما كنت سعيداً في الحانات وقصص الحب.

..............................................................

 بسام. توني. عبدالعاطي. ثم سليمان.


كلهم يعرفون السر.

 وكنت كلما آخيت واحداً طار به الوقت، وأخذتني الغربة من جديد. تاريخ حياتي سلسلة منقطعة من أسماء الحلاقين. كل واحد يعرف فصلاً من حياتي يختفي  دون إنذار. كلهم يعرفون السر. وكنت أشعر بغدر الحياة كلما اختفى حلاق تعودت على نبرة صوته وحركة يديه. فليس سهلاً أن تضع جسدك على كرسي حلاق من جديد. الحلاقون الجدد الذين تجهلهم غربة وأيام شقاء. في كل دكان حلاقة تسعة حلاقين وحلاق عارف وحيد. فكيف ستعثر عليه؟ 

يد الحلاق تشبه منارة البحر التي يقول عنها أنسي (إنها تغسل البحر من رؤاه وشياطينه فتصبح مستوطنة شياطينه). لذا يكمن النحس في معظم أيدي الحلاقين. عليك أن تعثر على الحلاق النطاسي الذي لا تتجمع أرواح الزبائن المتعبين في قبضة يده. على اليد التي تقص سرّتك أن تكون خالية من أطفال الآخرين. وحظ المرء في بقائه مع حلاقه المختار طيلة العمر. فلماذا كُتبتْ علي شقوة البحث عن حلاق  أبدي لا يترك المحل؟

ألفُ خصلةٍ من رأسي سردتها مقصاتهم على الهواء. كلهم حملوا ذات الندب في عيونهم، وذات القُطَب القديمة في أصواتهم. لأن الحلاق العارف له وجه قبطان لوّحته المحيطات. له عيون المغني الحزين، وله سحنة القتلة والمصلين. وكنتُ دائماً ملكاً خائباً يجيء منهكاً فينام في العرش، ويحسبونه مشغولاً بتأمل الخيل. كان البخار المسلط على وجهي يقشر روحي أكثر من جلدي. أتعرق وخطاياي تتساقط على الأرض. كنت الرجل المهدّم الذي يغفو كل مرةٍ على كرسي الحلاق لأنه لا ينام في البيت. هل تظن أنني لا أستطيع حلاقة ذقني في البيت؟ أقول لزميل يتهمني بإضاعة أموالي هناك. أذهب إلى حلاقي لأنني لم أعثر على شيء أو أحد يستحق أن أذهب إليه. اذهب أنت إلى حفلة المغني وأنا سأذهب إلى الحلاق. هل فهمت؟  قل إنه المعبد السري. جبل السهو، فجوة الفلاسفة، ومقبرة البحر بالنسبة لي. غرفة الاعترافات أو غرفة الصمت. ما نقوله هنا ندفنه هنا، وما لا نقوله أيضاً. هل فهمت؟

كلهم يعرفون السر. وتسربوا من يدي كالتراب.  

بسام السوري. ثم توني الإيطالي. عبدالعاطي المغربي. ثم سليمان التركي.

كل حلاق كان الغريب أو كنتُ معه الغريب.

لهجاتهم ، وقصصهم تزدحم في رأسي منذ عقود. أعرف أسرارهم، وحكاياتهم وأوطانهم وقراهم. سردوا كل شيء ومقصاتهم ما زالت تأكل من رأسي في النوم. تحدثوا عن الأرض الواسعة وأصابعهم تشير إلى الشيب في ريش الغراب النائم على الكرسي.

أكلوا خبز رأسي طويلاً. وكلما أحببتهم كانوا كالحب، يختفون.


السبت، 3 ديسمبر 2022

غبار النجوم

 



لم أعد أعرفني بعد أن فاتتني النظرة. 

كانت عيونكِ مشغولةً بانهياراتٍ بعيدة، هدبكِ بانثناءاتِ التانغو، وحاجباكِ بخفة الحواة.

كانت لكِ نظرةٌ من ثلاثة أدوار. في كلّ طابقٍ جزء. وكانت نظرتكِ تخرجُ في وقتٍ واحدٍ من ثلاثة شبابيك.


وأنا الجالس أمام زجاج النظرة، صرتُ رماداً مقوى بعد فشلي في التقاط نظرةٍ واحدةٍ منك.

النظرةُ التي احتفظتِ بها طيلةَ الوقت. نظرتكِ التي كنت تحرسينها بمالديك من فولاذ ومداميك. 
أكنتِ تخبئين النظرةَ في فمك؟ أكان عليّ البحثُ عنها في فمكِ بدلاً من محجريك؟ كيف ما انتبهتْ؟!

النظرةُ التي لم أعرف لها شكلاً، جرّحتني، لأنني لم أرها على الإطلاق. النظرةُ المخبأة في عينيك أخفتني لأيام. لم أعد أعرفني بعد ذاك الليل، لم أعد أعرفُ أنّ لي جسداً يتعثر ويمرض، أو ظلاً يراه الراقصون حول طاولتك البيضاء. 

كنتِ النهرَ الذي يتسلى بالحجارة والمنتحرين. وكنتِ تمحين مستقبل الأيام بمنع تلك النظرة من الظهور. كنتِ تحمين أطفالاً وآباءً في مكان بعيد من حياة جديدة طائشة تلوحُ في تلك النظرة. كان موتُ النظرةِ تلك حياةَ الحياةِ الرتيبة القديمة التي تخشين عليها من كل شيء. وأنا الجالسُ كنت أختفي بشكلٍ تدريجي مع كل لحظةٍ تمنعينَ فيها نظرتكِ من السطوع.

كانت عينكِ ميتةً تقريباً. ميتةً بشكلٍ واضحٍ، حتى وأنتِ تطلقين الضحكات. أكانت الضحكةُ حارسةَ الضوء الآتي من عينيك؟

ولأنك لم تنظري أبداً إلى عيني أحدٍ من قبل، لم يكن في عينيكِ حتى حجرُ زهر. لم يكن في عينكِ فرصةٌ لانبلاج الصدفة أو انشطار النبيذ. كأنكِ خبأتِ نظرتكِ في صقيع النيتروجين. وكانت نظرتكِ المردومةُ ثقباً في صدر من يراك. كانت نظرتكِ المحميةُ في المحجر شتاءً صلفاً وهواءً يقتل الطير.

في اليوم السادس خُلِقَ التعب، وفي السابع نام كلُ شيء في عينيك. وكانت نظرتكِ الغائمة غبارَ النجوم التي طويلاً إليها نظرتُ. 

نظرتكِ المردومةُ نيزكٌ باردٌ يثقب الطاولة الباردة البيضاء. أرى صداعاً مخفىً بمهارة خلفَ أذنيك. أرى في نظرتكِ غبارَ النجوم الذي يخلق الأطفال. ويَذهَبُ الغبارُ حين أفكر فيك. تُتعبني أيامُ السماء الصحو. يتعبني صوتُ النجوم حين أنام.  أعرف أن نظرتكِ الكسلُ المتعمَّدُ للبرق. أشدُّ بصيرتي بالنظر بلا طائلٍ إليك. مفكراً أنّ نظرتكِ الجانبُ المشمس من شارع الصباح. أنّ نظرتكِ الإبرةُ التي كانت أمي تطلبُ أن أنظمها كل مساء. أن نظرتكِ الغائبة ساعةُ ذروةٍ. وأنا كلُّ هذا الزحام.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

أحجار

 



وحدها الظنون تكتب وصفة الليل.

*

‏دليل القافلة، يبتلع قبل النوم علبة كاملة من النجوم.

*

‏من فم العائلة  لا من فم الليل، تتساقط الكوابيس.

*

‏الليل يانصيب، ولا أحد يفوز فيه.

*

خُلق الليل على هيئة قمع، فاجتذب الأسئلة والعيون.

*

الليل لحية أب تشتعل فيها نجوم أبنائه الغاضبين.

*

‏ الليل، كل الليل، ولد من ليلة واحدة، شعرنا فيها دفعةً واحدة بكل الكلمات.

*

كل شخصٍ ليل. كل شخصٍ يسقي ليله بعض ملامحه، وكل خطاياه.

*

القمر هزيمة كاملة. هزيمة جماعية تحدث كل يوم.

*

القمر بطنٌ امرأة أحبلها الصمت الطويل.

*

لأن الآباء نظروا طويلاً إلى القمر، أصابتنا لعنة الفقد.

*

‏يطير القمر ، لأنه لم يسمح للعصفور بنقره في الصباح.

*

يمرّ القمر فوق زنزانة فردية كما يمر فوق صحراء.

*

‏ما الذي يصيب القمر حين يبصر إنساناً يموت؟ هل يعوي البدر حين يمشي تحته السعداء؟

*

أول رجل شاهد القمر، لم يعرف الكتابة، وبسبب هذا فقدنا قوائم الناجين .

*

القمر دمعة الله. والخسوف خجله من السراة.

*

‏ما نكتبه عن الليل دمٌ فاسد.

*

نهلك حين نقرأ، لأن الكلمات هي الجفاف.

*

يأتي الليل لأنه لا يمكن الخروج عليه.

*

يفور الشاي الهندي في زجاحة الإبريق، يعرق السقف، هكذا يزداد طول الليل.

*

يبقى رجلٌ مستيقظاً طوال الليل، لأنه يخاف أن يحلم به أحد.

*

‏الليل صفحة بيضاء. مرآة لم تستخدم في غرفة الفيلسوف.

*

‏ تتبخر الكلمة، يبتلع سبينوزا خاتمه، ويلوح القمر في الأفق، كديكتاتور صغير.

السبت، 29 أكتوبر 2022

أجراس

 




أعرف أجراساً أكثر من أجراس الشك. 

أجلس في مقهى ينشر أجراساً نحاسية في سقفه. أجلس، ولا أدري ما الذي تفعله امرأة مرهفة في مقهى يقرع الأجراس؟ 

حين يطلب الزائر قهوةً يقوم النادل بعد أن ينهي تخمير القهوة بقرع جرس بيده. يتوالى قرع الأجراس هنا وسط الأحاديث الخافتة.  يقرع النادل جرسي وأنهض للقهوة. تتحدث المرأة المرهفة في هاتفها عن ولد يعاني الرهاب. هل ما زال يرفض الاستحمام؟ تهتف المرأة. وأفكر  .. ما سر هوس المعالجين بفكرة تخلي شخص فجأة عن الماء؟ كأن الاستحمام دليل براءة.

على كل طاولة وضعوا جرساً من نحاس. فوق رأس المرأة المرهفة كانت تتدلى أجراس من السقف، وفي يدها يتعرق قلمي المعدني الثقيل. 

كانت تتحدث وتكتب بالقلم فوق منديل، وكنت أنقر بيد واحدة فوق اللاب توب. كنت أشك ثم أوقن أنها ستذهب بالقلم بخفة الحواة المترحلين، هي التي تتحدث بصدق فني مع أمٍّ متخَيلَة عن إدمان ألعاب الفيديو ورهاب المناسبات. كان لها جمال الجواسيس وتحيط بها هالة من ثراء بغيض. وكان قلبي ينوس مثل بندول صدىء، وهو يتصور اختفاء القلم الذي أحمله منذ أكثر منذ عقد. القلم الذي شاهد كل شيء سيذهب الليلة مع امرأة مجهولة تحيط نفسها بهالة من طب وغموض وثراء. 

كانت أقراطها تكفي لإشعال حرب، وساعتها كفيلةً بعلاج التاريخ. لا أدري كيف صدّقتُ امرأةً لا أعرفها، وأعرتها قلم العيش الذي لم يفارقني منذ سنين؟ ولا لماذا تركت المرأة كل الجيوب في المقهى واختار بصرها قلمي المسالم المطمئن في الجيب. 

حين استسلمتُ للخسارة وأغلقتُ سحاب حقيبتي لأغادر المقهى، تدلتْ يدٌ من لا مكان. أشهرتْ يد المرأة قلمي في وجهي. كأنها سخرتْ من عماي، من نوبة القلق، وهي تدفع القلم ليلمس يدي الباردة الغائبة عن الوعي.

كان قلمٌ يحط على يدي وكان محاطاً بدفء سافر. كان نبضٌ وكانت شعلةٌ زرقاء تحيطان بالقلم الأسود. شعرتُ بما يشبه الشمس المجوسية في أصابعي حين استعدتُ القلم. شعرتُ أنني عدتُ للحياة أو عدتُ للموت. شعرتُ بالخواء والامتلاء. شعرتُ فجأةً أنني أضعتُ حياتي. وكان هذا مريحاً أو قاتلاً. وددت لو أن هذا كله لم يحدث. أفكر هل سممت المرأة التي تتحدث عن الرهاب قلمي الثقيل؟  والسم .. سينفذ إلى جلدي قبل حلول الصباح؟

توقفت يدي فوق القلم، ولم تتوقف الأجراس. 

السبت، 24 سبتمبر 2022

القُبلة



أصحو وأفكر كيف يمكن للواحد أن يعرف إن كان مرئياً أو غير مرئي؟ 
أفكر أنني الآن غير مرئي قليلاً، وأنني على أهبة الاختفاء.
أعرف ذلك. لأن أول ما أقوم به كل فجر هو اختبار القُبلة. 
أن أمشي مباشرة من السرير باتجاه النافذة، منحنياً بما يشبه الركوع لتقبيل الحمامة التي تتمشى فوق ضلفة النافذة. 
أقبّل أول حمامةٍ تهبط في الصباح. أقبلها بقوة خلف الزجاج الشفيف عدة مرات دون أن تطير.
 يستغرق الأمر أحياناً ثلاثين ثانية لتشعر الحمامة بظلي وظل القبلة قبل أن تطير.
 لذا أملك إثباتاً على أنني حالياً غير مرئي، غير مرئيٍ قليلاً. غير مرئي لثلاثين ثانية. 
أقوم باختبار القبلة كل صباح. نَمَتْ لديّ رغبة غامضة بمواصلة الاختبار. أقول لعلّ؟ لعلّني أنجح يوماً في كسر الثانية الثلاثين، والاختفاء تماماً عن العيون. 
أقبّل الجناح مرةً، الذيل في الصباح التالي، البطن، العين، المنقار، العنق، والأقدام...
 سيأتي الجزء المناسب من الحمامة المنتظرة يوماً ما ليأخذني معه، وأكون الرجل الذي تخلص من ثقله وتلاشى في طائر وقف يرتاح على النافذة.
يتطلب الأمر الكثير من القسوة لتكون شخصاً غير مرئي: ثلاثة عشر عاماً من النوم الانفرادي. وحشةً ثابتةً من طابقين. العيش حافياً، الصمت لساعات،والتجول عارياً في البيت طيلة الأيام.
 تفهم مع مرور الوقت أن العري حيلة ناعمة كي يتجه المرء في النمو والارتقاء إلى تلك الجهة القديمة المعاكسة: جهة الرجل الذي نجا من اللباس، هناك حيث انكماش فصوص الدماغ، وخسارة الكلمات والمواقيت والأحلام.
أصحو كل يوم قبل نزول الأشياء ، أواصل التجربة، مؤمناً أن هناك أحداً سيأتي، لأخذي من البيت.

 

السبت، 27 أغسطس 2022

عصفور

 


كنا نتبادلُ النقطَ بدلاً من الكلمات، 
أتركُ نقطةً وتتركين نقطةً في صندوق الأحاديث،
ونُفاجأ أن كلابنا تصل في وقت واحد، كل مرة، إلى المخطوطات.

كنا نترجم دون قصدٍ قصيدةً شائهةً لآن ساكستون،
ثم نفكر هل ستكون آن سكستون سعيدةً بعثور شبحين، في نفس الوقت، 
على قصيدتها الأكثر وحدةً في مرآب؟
 أتركُ نقطةً وتتركين نقطةً في الصندوق،
ونفكر أن النقطة هي الكتاب.

نتذكر ونحن نحصي الضحايا عصفوراً أحمرَ غاب فجأة عن شاشة الليل.

كان نائماً على ارتفاع سبعين متراً فوق شجرة السيكويا، قبل أن تهوي الشجرة، وينزف لأيام. 
بعدهُ، شاهدنا البذور ارتباكاً في مقلاة الشمس. وألفينا الخبز الأحمر وحيداً في صحن الغريب. 

العصفور يخرج من حنجرتي الآن،
يطارد بريشاته الجدد كل نقطةٍ يراها في البيت. 
يفتح بمنقاره الكتب الطريحة على الأرض، 
يخبرها عن تعبه من فكرة السماء، 
ورغبته في أن يكون نقطةً على السطر.

الجمعة، 26 أغسطس 2022

الظِلال

 




كانت الظلالُ تتوردُ على ترقوتك الغائمة. وكانت شموسٌ تتأهبُ من كل مكان.

كانت البجعةُ تطوي قدمها عالياً باتجاه السقف، وكان الهدوء يسقط من رأسها على سجادة التمرين. 

كنتِ تسحبين جرعةً وركبتكِ فوق عُنقِ الوقت. 

كان جسدك في الخلوة يعترف للمطاط، والوقت يكفّ عن أذاك. 

كنتِ تنسلين من الأيام الماضية في اليوغا،

ولم نكن نعرف إن كان قرص الشمس يسقط في قدح القهوة الذي تشدين به يدك، 

أم إن قدح القهوة كان يغطس في يدك، لتلتئم عَظْمةُ الصباح.

الاثنين، 20 يونيو 2022

البروق

 



البروق مكالمات فائتة لا يرد عليها الأصدقاء.


ندرك هذا في الصباح بعد توقف الأمطار، حين يتحدث الكل عن الارتواء والأودية

 ولا يتحدث أحد عن محاولات البرق كل مرة لكتابة شيء ما. 

يا ليتم البروق. 

لا يرون أنها تنتحر عارية من أجل غاية ما. 

لا يتحدث عن بسالتها الرعاة ولا الشعراء. 

لم يتحدث أحد عن البرق كجندي يصاب بالعمى

 فيطلق النار في كل الاتجاهات،

 يقتل الناس ربما، لكنه لا يقصد الإيذاء، بل يشعر بالخوف،

 ولا يدري من الأصدقاء.

الأحد، 19 يونيو 2022

فقدنا الريح





تحدثنا طويلاً عن البحر. 
..................................................

والبحر شخصٌ باردٌ لا يحب الحديث عن صورته ولا يدافع عن نفسه. 
هو الصدع والماء والريح والنار. كيف للأشياء كلها أن تتحدث في موجة واحدة؟

تحدثنا عن البحر هذا الصباح. 

رأيناه عالقاً في زرقة بالية. مبللاً طيلة الوقت بالعالقين فيه. متهماً بالقتل والغدر.
 مثقلاً منذ مولده بدعوات الهاربين فوق ظهور السفن. بصلاة الغارقين في جوفه الأحدب الطويل. 
وأقول إن البحر ساحة حرب. لكنه لم يختر الحرب. فلماذا نلوم البحر على الذين اختفوا فيه؟


أفكر أن الغضب الذي يطبع البحر ليس غضب البحر.
أن غضب البحر هو غضب الآخرين. 
أنه مزاج الآلهة وشقاق الأرض مع نفسها منذ وقت طويل.
 وقد خرج الأمر عن يدنا الآن. لأن البحر قبل قدومنا للحياة كان فكرةً مرتجلة لم تُصلح الحياة. 
لأن العشبَ الأزرق نزوةُ الألواح. 
لأن الماء خطأ اليابسة، والمحيط العظيم ندم السحاب.

قلنا كلاماً جارحاً عن البحر.

قلنا البحر ذريعة السلطان ومرايا اليأس الأخضر. يحيطونه باللعنات واللحوم الطيبة والمجد والموت. 
باسمه يقتلون وله يقدمون القرابين. يزوجونه العذارى ليهدأ والأنبياء ليؤمن. 
يعلّقون حدوةً صدئة فوق صدره  كي يبطيء السير.
 يكشفون له الأثداء الغضة كي لا يجذبهم إلى الأعماق.

لكن البحر ليس فاجراً أو كافراً أو مهووساً بنيل شيء. 
البحر يأس كبير. لا الأجساد ولا الكلمات تصل إليه. 
فالبحر عالق في نفسه مثلما أننا عالقون في سوادنا القديم. 
يعلم أنه يذهب ذات يوم إلى الجحيم. 
أو أنه سيصير الجحيم.

لذا يكتفي بتمرير حزنه بين قارتين، كاتماً سره كل يوم في آذان غرقاه.

تحدثنا طويلاً عن البحر.
عن الحب والقيء والموت والمعجزات. عن القراصنة والأوبئة. عن الصيد والعاصفة. عن الريح الطيبة والخيانات.

ثم توقفت أصواتنا فجأة في منتصف البحر.

وفقدنا كل شيء

حين فقدنا الريح.

 

الجمعة، 10 يونيو 2022

مسقط الرأس



الحياة أشياء تأتي في نهاية اليوم. 

التعب والعتب والخوف.

أشياء تأتي في نهاية اليوم. 

أقف الآن أمام نافذة المطبخ لأخلص الأطباق من جلوسها الحزين. تتشقق يدي من الماء. تقف الكواكب على الكتف مثل طير ملّ من السماء. تتهاوى الأسماء المستخدمة في النهار الطويل. يضيئون الملعب والساحة والبرج. تنساني النافذة التي كانت تتودد يدي في الصباح. تعود الحمامة إلى بيضتين في نافذة المنور. تقع ريشة على ذراعي، ويتطاير البوتاسيوم من الوريد. 

الحياة الآن عالقة في نهاية اليوم.

لأن القمر حُجة بالية لمديح الوقت، والغروبُ طعنة تحدث كل مساء.

لأن الخوف مسقط الرأس. والهزيمة محفوظةٌ في الكهرمان.

لأنني كلما أمسكتُ بحجر الحظ وقلبته وجدتً الخوف مكتوباً على ظهره. كلما كسرتُ بيضةً التصقت بيدي صرخة بيضاء. كلما تسللتْ نشوةٌ  إلى شفتي شعرتُ بخثرة في الساق. كلما صرختُ من نشوة العثور على يابسة فأجأني القراصنة بسيوف باردة زرقاء. وفهمتُ وأنا أغلق المزلاج كل دقيقة أن الناس هم الخوف.

ما دام هناك شخصٌ يعرف صوتك فأنتَ في قبضة الخوف. ما دام هناك من يصحو لينساك فأنت في قائمة الموت. ما دام لديك جرسٌ في البيت فسوف يستخدمونه لتدميرك. ما دمتَ تحلمُ فسوف يعثرون عليك. ما دام لديك نبتة تسقيها فأنت في عصمة الذبول. ما دام لديك قطة تطعمها فأنت على شفا حزن كبير. 

و‏أسوأ من خوفك، أن تخاف على الغرباء منك. لأن الخوف درّبكَ على الفتك.

 يدكَ المرتعشةُ مسننة وباردة، وقلبكَ متوجسٌ منك.

 خوفٌ لا تردمه الأمهات ولا دموع القواميس.

 لأنكَ تعرفُ جرحاكَ من لون عينيك.

 تعرفُ أن النجاةَ فتاة تضع كثيراً من المساحيق. وأنتَ تشتتُ المصادفات السعيدة بالركض الطويل وصعود الجبال.

 أنت الآن أيها الولد، ولدٌ خائف يعوّل كثيراً على سماعة الرأس، ويعشق الحرب والانفجارات.