الجمعة، 28 أكتوبر 2016

نصوص







سمعة الكائنات

لديه سببٌ واحدٌ يجرّ به الأيام: سمعة الكائنات.

 يصحو كي لا تتأخر الطائرات. يصلّي كي لا يضيع الخرز. يسكنُ كي لا يهرم الطلاء. يفتحُ كي لا يتسخ المقبض. يطحنُ كي لا تُهجرَ الركوة. يطلّ كي لا تصدأ الشبابيك. يقسو كي لا يصرخ الأطفال في متحف الفن. ويغضبُ كي يتوفر التبغ والبروزاك. 

يسهرُ كي لا تدخل الجلطة للبيت. يهيمُ كي لا تضيع دمية البنت، ويصلُ كي تنبح الكلاب في وجه الغريب.  

يفتح عينه كل يومٍ كل يومٍ كي لا تمرض عاملة الكواء. كي لا ينزل سعر الصرف. كي تحصل السناجب على اللوز قبل الغروب. ويصل الأولاد قبل الأجراس. 
وينظرُ ينظرُ كي تبدو الملاعق براقةً، والكؤوس خلواً من الناس. 

يهرمُ كي يحافظ الطبيب في روايةٍ قديمةٍ على وحدته، وتستمر فتاة البيانو في العزف حتى الموت.

 يعيشُ كي يحضر البستانيّ في نيسان، وبائع الحليب في الخامسة، وشاحنة القمامة نهاية الأسبوع . وجثته بلا أخطاء. 

*****************

عودوا أكملوا الأخطاء



عودوا أكملوا الأخطاء، ولا تتركوا أخطاء ناقصةً بين السماء والأرض. 
عودوا. أكملوا الفرجة الخاسرة، والأرجيلة الثقيلة، والزوج البشع، والكحول الرديء، والسهرة المملة، والوظيفة الفارغة، والأغنية الصاخبة، والصلاة السريعة، والقهوة الباردة، والرواية الباهتة، والحضن البائت، والأصدقاء الميتين.

عودوا قدموا، ولو لمرةٍ، شيئاً كاملاً للملاك، بدلاً من وقوفكم بقية العمر كالطلاء القديم، شبه منتصرين. 


*****************

رسم الهواء


لو أنني غصنٌ يميل عليك 
وأنتِ ترسمين الهواء.

لو أنني أزيح الصحارى ليجلسَ النرد، و أكنس النوم كي أرى يدي لدى الباب. 

لو أن الموت ليس فضيحةً والموسيقى ليست مشياً في النوم. 
لو أن الحقائب أقل من العيون، والأيامَ لا تعلو على الحاجب. 
لو أن القارب في الخزانة، والنافذة في الجيب، والمديةَ في الظهر، والفقر في المرآب، والعماء في القهوة، والطريقَ يظهر فجأةً

 في حذائكِ الصغير. 


*****************

 بلا اسم



يشبهك الشارع الملاصق للمحطة. 
الشارع المسمى (الشارع الذي بلا اسم). 
The street with no name

يعبرك المسافرون 
ويلتقي على كتفيك العشاق. 
ورغم كل القبلات والدموع والسجائر التي تراق عليك، 

تبقين بلا اسم. 



الخميس، 16 يونيو 2016

ليس حزناً ولا قصة








كلما حلمتُ بك، رنّ جرس الباب. ثم أرى كل الأحذية التي مشيتِ بها في العمر، ولا أرى يد الباب.


ولأنني أستمر في سقاية النبتة الميتة، وتبخير غرفة البنت التي لا تصحو، والصلاة طويلاً دون وضوء، بتّ أفهم الحياة التي تستمر بشكل أفقيٍ تحت الأرض، والحروب الطويلة الصالحة للاستخدام مدى الحياة، والرماديّ في تنانير الراهبات. 

أنا أعرف الحزن. 
وهذا الذي يحدث الآن ليس حزناً ولا بحيرةً في صحراء. ليس قصةً ولا نهراً ملوثاً في طريقه إلى البحر.
 الذي بيننا زهرة الموت، والموت ليس حريقاً عابراً ولا معاش تقاعد.
 ربما نزهةٌ أبدية بلا رفقةٍ، وأجسادٌ جميلةٌ تفقد النسيان.

ما بيننا إلهٌ قضى لكنه يظلّ أبانا الذي لا يموت. مضينا لم ننسحب من يد الباب، ولم نتأخر لحظةً عن عض الوقت أمام إلهٍ لم يعد قادراً على العفو. وكنا نقول لا أحد ينسحب من إله، فالآلهة خالدة حتى لو قررت أن تموت.
 لكن دعني أقول أيها الصديق الذي لا أثر له، إنني محبوسٌ في قدّاحة شخصٍ ميت، وأشتهي سيجارته. دعني أقول بلا احترامٍ للغد: لا أحد يخلع إلهاً أو طفلاً فارقته الحياة.

الطفل الذي جمعنا في حصّالته مات. ونحن الآن في حصالته: عملتان تنظران كل يومٍ إلى بعضهما في الظلام. 
وكل ما نفعله أننا نتعود شيئاً فشيئاً على الخوف. وشيئاً فشيئاً نفهم الخوف ونحتمي به ونأكل مما يترك. 

يا صديقي الذي فارقته الصلاة: حتى القتلة يصلّون، ولا شيء لا شيء قاتلاً مثل صلاة القتلة. 



 ليس حزناً ولا قصة. 
ربما عُملتان تنظران إلى بعضهما في الظلام.
لن تقرأ لي. لن أقرأ لك. لن يقرئنا الذين كتبنا لهم. 
ولا الآلهة التي تقص عليك القَصص تقرأ الروايات. 

الثلاثاء، 17 مايو 2016

ستارة







لي أبٌ يكره الشعر ثم يحبسني في الدواوين
يخلق غجراً من صلبي
ثم يعّيرني بألوانهم النحاسية
وقلوبهم الفظيعة المحتالة الرثة 

 يوصيني  بالمريميةِ والزيت
بينما يجعل من رؤوس أطفالي زهوراً حجريةً

 على شرفات القصور.

ثم أبي يسألني.. من أين لي غلظة السيّاح والنسيان؟ 

نحن جارحون نسّاؤون لأننا بكَ مصقولون
والآباءَ أنتَ خلقتَهم جارحين. 

نحن خبزٌ صعبٌ 

لأن الخبّاز كان غاضباً ونحن بين أصابعه
فظللنا نرتكب الكثير من الحماقات

ونتفاجأ كل مرة بقدوم الصيف


بالأمسِ قتلتُ طيراً

ثم ما استطعتُ أن أخيط  فاه
صارت صرخته نبعاً
ونظرته ياقوتة

في ثوب طفلةٍ عمياء.

وظللتُ أحلمُ كل ليلةٍ كل الأحلام التي كتبها الرب على الناس. كلُ الأموات في مقبرة البلدية اشتاقوا لي في لحظةٍ واحدة، تعطروا جميعاً في ليلةٍ واحدةٍ كي أتذكرهم، وأزورهم.وكانت غرفتي في الصباح تختنق بالعطور وأشواق موتى الرياض. 

هذا يحدث لأن أبي يصمم كل شيء.
 وقسوة قلبي ليست من تصميم سواه. 
هذا يحدث لأنه كان يطعمني رؤوس العصافير
وقلبي صار مكباً للأغنيات

هذا يحدثُ لأنني أنام منذ سنين في غرفةٍ عارية

 شبّاكها غير محمي من الصباحات 

ولستُ الآن قادراً على أن أكون مهذباً وأنا، منذ عقود، أول من يركله الصباح  

لستُ أخاً لأحد

ولن أعرف أحداً

وأنا بلا ستارةٍ
يا الله.

الجمعة، 22 أبريل 2016

خيزرانٌ ميتٌ يشربُ الماء





..............

ثم  من يدها
بعد أن صافحته:
 سقطتْ حمامةٌ ميتة.


*******




يشبهكَ الخيزران
أيها الشاعر
ينسون سقايته سنواتٍ
ويستمر بعد موته
 يشرب الماء



*******



شخصٌ ميتٌ قال: (عوّلنا على المفاتيحِ ولم نصل.
من المتأخر جداً أن نعوّل الآن على اللا مفاتيح).

كانت المفاتيح في المدينة المغلقة أكثر من الخَلق 
وبالرغم من أعدادها ظلّتْ عاجزة عن فعل شيء
حتى تبدو السماء ضيقةً  كلما رأيت محل مفاتيح

ترى ماذا بعد أن يغلق المفاتيحيّ باب دكانه، وتغرق المفاتيح في الليل..
ماذا تقول المفاتيح الجديدة الخائفة، والتي بعدُ لم تكبّلها البيوت؟


*******



عجوزٌ  أمام الكاتدرائية.
عجوز بجهاز تسجيل قديمٍ وضخم في ساحة سانت بول.
عجوزٌ يضرب البلاطات بعصاه
يحمل مسجلته كدلوٍ  ويرش الساحة بموسيقى الستينات.

الحَمامُ في الساحة لم يطر ذلك الصباح.  
بدا ثابتاً على الأرض كقدامى المحاربين.
بدا غير عابيءٍ ببقايا الخبز وغير خائفٍ من ملاحقات الأطفال.
كان الأعمى السكران يسقي الأرض بموسيقاه.  
وفي عيون الحَمام قامَ بستان ورد. 

*******



 الرسام الذي فقد ذاكرته في حادث سير، لا يتذكر نفسه ولا اسمه إلا حين ينهي لوحة على الأسفلت.كان يرسم لوحةً يعلم أنه لن يستطيع حملها ولا بيعها لكنه يستمر بالرسم على الأرض.حين يصفق الناس للمرأة الجميلة التي تخرج أخيراً من أنامله، يلتمع اسمه كبرق. وحين يبلل المطر اللوحة، وتختفي المرأة، يتذكر اسمهُ لوهلةٍ، حين يسيل اسمهُ على الأسفلت. 

*******



على مشارف فمك الطفل
يستوقفني العالم.
ذاك العالم السهل الذي يخرج من فمك ، حين تنطقين بسلاسةٍ ودون لكنةٍ أصعبَ الكلمات: world 

على مشارف فمكِ أفهم أن العالم يكتمل بسرعةٍ 
وبسرعةٍ يتلاشى في الهواء
وأن موهبة (العالَم)
تولدُ مع المرء. 


*******



المكتبة بعد وفاتنا مكانٌ صالحٌ للمشي.
أناسٌ لم يكونوا على البال تزدحم بهم مكتباتنا بعد الموت.
على رؤوس أناملهم في الليل يجيئون.
كل نفسٍ تزور بعد الموت كي تكتب سطراً لم تصله في الحياة .
وكل امرأةٍ تطرقُ بابنا بعد الوفاة تكتب توقيعاً أو لعنة.

ثمة امرأة واحدة فقط تزور ولا تكتب. تقضي اليوم كله في تنظيف الكتب من الأحبار. ثم بهدوءٍ خلفها تغلق الباب.


الجمعة، 1 أبريل 2016

صوفا






كنا نسقط منتصف الليل.
نهوي مع سعال القلب، ثم يلفظنا السرير.

نُرفضُ في كل ليل. مثل تبغٍ تكنسه الأهداب الخربة، لقصبة مدخنٍ في السبعين. 

 لقد أوقعوا بيننا وبين الأحلام.
 تقدم بنا الخوف، وأفسدت سيقاننا موسيقى الغجر ورقصة العنكبوت وأغنيات الريف.


كبرنا في بئرٍ وظننا السرير ورماً، والحجرة ظنت في بطنها  نبياً هارباً من رسالته يدفعها للغثيان.

وبعد أن ألقى بنا التخت للأرض لم نعد نأمن الأشجار أو نصدّق الأطفال.
لم نعد نصدّق الأموات أو نثق بدماثة الأقطان.

كنا ظلماتِ السرير ثم لم يعد يعرفنا السرير.
أظلمنا كثيراً. 
أظلمنا ولم يفهم سواد قلوبنا سوى الصوفا ومقاعد الطائرات. 

ولما لم يمكن العيش في الطائرات تدبرنا أمر الحياة بالصوفا،  وردمنا في جوفها أعقاب  الأيام الحلوة ودسائس المقربين.

لم نكن في الصوفا بحاجةٍ للوضوح  كي يُسمح لنا بالعبور، أو بحاجة للبأس كي نعدو بخيولنا العمياء.

كنا نسقط في نقوش الصوفا بهدوء الحِملان، تُخطئنا رماح الأصدقاء، ونجد أنفسنا بكامل أقدامنا في الصباح.

كانت الصوفا طريقتنا في الشرح.

لم نكن بحاجة الحب كي نكره المزيد من الهوايات

 أو بحاجة الأم كي نخفي الأخطاء. 

الأربعاء، 30 مارس 2016

الساعات







في ساعةٍ متأخرةٍ من كل شيء
 أسمع نحيب الورد
على ورق الجدران
وأشمّ غبار إبريل
وهو يفلّي حصباء  قبرك القديم

إنها الريح
ومرة أخرى يا أبي 
لا أتبين صوتك
في كل تلك المنامات التي منذ ثلاثين 

أنا الولد السيء 
يحيق بي المكر 
وتتركني وحيداً يا أبي
بحياةٍ لا تشبه عينيك 


لماذا تركتَ لي الإبل 
وأخذتَ مني الصحراء؟

لماذا علمتني الصمت
ورميتَ ليَ الأوراق ؟

لمَ أقفلتَ دكان الساعات علىّ
ومنحتني كل تلك الساعات التي لم تبع
ولا يمكن تصريفها على الإطلاق ؟

لماذا أنقذتَ الولد من حتفه مرتين
ثم متّ فجأةً بين ذراعيه؟

لماذا جئتَ بأولادٍ في الخمسين والستين
تبتلّ لحاهم كلما نظروا إلى الساعات؟ 

ليست القصة أنني لن ألتقي بك  
في الصحراء
في الصمت
في الدكان
في الليل
في الموت

إنني فقط ولدٌ سيء
لن أحصل على قبرك

ولن أعرف أبداً

كيف أبيع بدونك الساعات

الاثنين، 22 فبراير 2016

يريد أشياء قليلة









كان ينفذ خطة واضحة
 للانتقال إلى لا مكانٍ 
 ولا أحد.

وكان كلما أطفأ شمعةً؛ سقطت مدينةٌ من قلبه.


 في الثلاثين تخفّى في الأطراف الشاحبة للعاصمة.
 في الأربعين رأى ناراً في بلدة الأم.
في الخمسين بدا كقاتلٍ، 
وأحب هواء القرى التي لا يمر بها أحد.
في الستين سقطت عن كتفيه المدن
فانتبذ إلى قرية صيادين ملقىً بها على البحر.

ثم قل عدد الذين يفكر بطعنهم في السبعين،
وأحبته الأسماك. 


*** * *** 



كان يفهم حزن الكلاب التي في الحدائق العامة تقتل الوقت. 

وكان

يريد أشياء قليلة:
يريد مدينة كي يشفى من مدينة.
يريد صاحباً كي يحكي له عن صاحب.
يريد حبيبةً كي يقنعها بالتوقف عن الحب.
يريد أماً كي يصف لها أدوية أمه الميتة.
يريد قهوةً جيدة في النرويج
ليحكي لها عن القهوات السيئة التي تعرض لها في حياته.

يريد جداراً كتوماً بصورة رماديةٍ لبورخيس
كي يروي له مغمضاً 
القصص المملة التي لم تحدث
 لجدران البيوت التي آوته.

يريد طبيباً مأجوراً
يخلصه من الأجنة التي تركل بطنه في الليل.

يريد دمعة فتاةٍ من لشبونة
 كي ينقذ السفن التي تحترق فيه منذ عقود.

يريد قارورةً جديدةً
 كي يكسرها وهو يخبرها عن العطور التي وشتْ به.

يريد قراصنةً
 كي يسترد عينه الغائرة
 من طفلٍ يشاهد بها الرسوم المتحركة.

 يريد أوسمةً 
كي يربطها مع الأعشاب حول ركبتيه.

يريد صلاةً  كي يصلي للآخرين.

يريد قرامطةً كي يطوف، وعطارين كي يطحن زهرة شبابه، وحلّاقين كي يتخلص من الخوف.

يريد كلاباً سلوقيةً ينقع أقدامها في طاسة حناء 
ويركض وراءها حتى الموت.  

ويد والده الضخمة
يد والده الضخمة يريد

 كي يصفع الآباء الذين يأتونه في النوم.

الجمعة، 12 فبراير 2016

سماع








كانت تفاجئونا أغنياتٌ كلما خرجنا من البيت.
 وكان الهواء تسليةً ولعبة أصوات.

 إبرة البث لم تكن محميةً من عيون الطير أو قوادم الأغنيات.
وكان للأمر علاقةُ  بأشكال الهواء الذي يلفنا وتقاسيم الغيوم والنور.
ففي مواقف القبو تزدهر كانت نقرات السيتار وصوت مغنيات الهند.
وفي مواقف السطح المجاور للسوق كانت تهبط أغنياتٌ من مقاهي بغداد.
أما حين نهبط الوادي المطل على قصورٍ قديمة فتبزغ أغنيات نادرة من باريس الستينات.
لم نكن في السيارة نبحث عن موجة أو مغنين.
كنا نقودُ في كل اتجاه وكانت من لا مكانٍ تهبط الأغنيات. 


النفق الأخير في المدينة كان بحراً من وشوشات عصاةٍ وأنبياء وأشواق أسماك وُجدت بقاياها في الصحراء.
وما أن  يبتلع النفق المركبة حتى تختفي المحطات المبرمجة وتتشابك في هواء النفق حروفٌ قدسيةٌ مع أناشيد رعاة وآلات نفخ وأكورديونات.


في السيارة يبدو النفق الأزرق مقبرة بحرية، والمصابيح الصفراء أرواح موتى لا تزال حائرة تطفو منذ عقود.


كأن الأصوات المتشابكة كانت أمنياتٍ أخيرة تم دفن برادتها مع الأموات. 

 كانت تفاجئونا هجمة الأغنيات
التي كما لو كانت تظننا آخر الأحياء الذين احتفظوا بقدرتهم على السمع.


وبدا أنهم حين دكّوا الأرض لتسهيل المرور
 شتتوا الكثير من الموتى والأغنيات.

الاثنين، 18 يناير 2016

(ما يرام)






ينسى الناس بعضهم بسرعةٍ 
في بحر الشمال.

ينساك وحش البحيرة
 ونادل المقهى 
ولا تتعرف عليك موظفة الاستقبال ولا الساحرات في قلعة ماكبث.

في (إنڤيرنيس)*
لا تجري السفن في البحر
ولا يذكر الناس بعضهم أكثر من ساعات 
لكن تجري الحياة
 وتُذبح العجول 
 وتعمل إشارات المرور.

يشرب الناس قهوتهم بخشوعٍ مبالغٍ فيه
وكأنه اليوم الأخير لأشجار البن،
ويذبحون المزيد من الحطب
 لتدفئة أطنان الكتب اللاتينية في المكتبة.

في إنڤيرنيس
تصل في وقتها القطارات 
لكن لا أحد يعرف الواصلين.
تُنسى الحيتان على الشط
ولا تتخذُ سبيلها في البحر. 
تتكدسُ بطاقات التهنئة
يتدرب الناس على اختفاء الشمس
 إلى الأبد
ولا يعرفون الأسماء الكثيرة للورد. 

في الصباح
كانت واضحةً بشاعتي 
وأنا الوحيد الذي يتذكر ما جرى بالأمس
في مدينةٍ تنسى
على بحر الشمال



********


لا أحدَ يَحْدُثُ في (إنڤيرنيس)

لم يحدث سواي

وحين توقفتُ للغداء سمّمتني أسماك نهر Ness.

ألجأتني الآلام آخر الليل إلى أريكة من خشب النرويج .
 كان السهر ورماً
وكانت النافذة تندمل
 وأعالي كاليدونيا تصير غرفة عليّة
في فندق من فئة نجمتين.

في الأعالي تألمت.

 آلمتني مثانة أبي التي جرّحتْ سبعين عاماً من الوسامة والنخل. وفكرتُ بحساسية القمح التي تهتك أمعاء صديقي، وفلفل الهالابينو الشهي الذي يرسل مصران حبيبتي للجحيم، وركبة أخي الكولونيل التي يخذلها الصليبيّ فتجعل منه حصاناً ميتاً في سرير أنثاه.

وانتبهتُ أني حين كنت أسأل عن الصحة كانوا يجيبون : على ( ما يرام).  
 والدي مات.
 والصديق لم تزل تؤلمه رائحة الخبز.
 حبيبتي تناوم هاتفها،
 وتلاطف القولون الذي يقرض ضحكتها كجرذ،
أما الكولونيل فاستقل بحجرة نومٍ ملاصقةٍ لغرفة أنثاه.

ولا زلت حين أسأل أسمع توقيعة ال ( ما يرام). 


في الأعالي تألمت.

أبيضَ كان الحمّام وأكبرَ كان من غرفة النوم. 
كان خلاءً صقيلاً يتسع لسرير ملكي ومعبد زنٍ  وطاولة اعتراف.
كان الخلاء مطلاً على جبل ثلجٍ ومصمماً للآلام. 

نظّف الليل معدتي. صقل نظرتي الهواء الحزين القادم من مقاهي النرويج، واستمر يفزع نومي دويّ القطارات. 

ورغم ذلك لم يحدث شيءٌ عدايَ في إنڤيرنيس. 

لم تتذكرني الموظفة السمينة في الفندق، رشّ العمال الملحَ على الطرقات، نسي الناس الأشياء التي لم تحدث أصلاً ، والمدينة كما بالأمس،

 على ما يرام. 









----------------------------------
* مدينة صغيرة شمال أسكتلندا

الجمعة، 8 يناير 2016

حانوت الشيء







كنا كل صباح نقصد حانوت الشيء.
الحانوت الذي يبيع شيئاً واحداً وحسب. 
وفي الحانوت نقضي اليوم كله في تقليب الشيء الوحيد الذي يملأ الحانوت
ويجتذب المصابين بالحياة. 

شيء وحيد يملأ أرفف المحل. شيء وحيد كان علينا أن نقرر بشأنه.

 شيء نمسكه باليد كل نهار، لكننا كلما أمسكنا به كلما فقدنا جزءاً من أبصارنا، واضطررنا للعودة له في الغد. 

شيئاً فشيئاً يصبح حانوت الشيء مزدحماً بنا، بنظراتنا المفقودة المترامية، ورغبتنا الأكيدة في الاقتناء. 

لا أحد سوانا في الحانوت، لكنه مزدحم. 
سلعةٌ واحدة في حانوت الشيء، لكنها تماطل العين.

أحدهم رسم  دورة الحياة: التردد على حانوتٍ يبيع شيئاً واحداً وحسب، والفشل في الشراء.


تصبح الأيام سلسلة ذهبية مستنسخة من اليوم الذي نزلنا فيه من البيت للتبضع من حانوت الشيء.
 ثم مرةً وفي طريق الذهاب للحانوت يحدث أن نرتدي ذقناً ونتزوج، ثم يفتن أبناؤنا بالشيء، يظنون الحياة جولةً في حانوت الشيء الواحد، ويعيدون الحكاية.
ووقت نكون استرجعنا النظرات القديمة ، وأردنا إسداء النصح لأنفسنا، نكون فقدنا الكلام.