الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

ثقب واحدٌ ووحيد


تؤرقني فكرة موت رجل أعمى. تؤرقني لأنه يجب أن يحصل الموتى على عيون سليمة ليمارسوا حياتهم بشكل حر بعد الموت.

لا يوجد ما يدل على أن الأعمى يستعيد بصره بعد الموت، وينبغي لهذا أن نذهب للموت بنظر جيد. 

حين أصبت بمياه زرقاء وفقدتُ إثرها عيني اليمنى كنت قلقاً من الموت قبل إجراء الجراحة التي قيل إنها لن تسعف سوى العين الأخرى. وحين توقف قلبي بشكل مفاجيء في غرفة العمليات كنت سعيداً أن الطبيب قام قبل موتي بإنقاذ العين اليسرى من ضغط الشلالات الزرقاء التي كانت تهدد بعمى تام.
ينبغي القول إنني كشخص ميت لا أستطيع إخفاء سعادتي بعيني اليسرى. العين التي لن تنظر لأحد بعد الآن! 

هؤلاء الذين يعيشون بعين واحدة يخسرون نصف الحياة ولا يربحون كل الموت. فعين واحدة تشبه حباً من طرف واحد. والعيش بعين واحدة يشبه عاشقاً واحداً ووحيداً يزور كل ليلة باباً لم يعد يدور فيه القفل.
العيش بعين واحدة يعني أن تستغني عن نصف مكتبة لأنه لم يعد لديك مكان ولا شباك يكفي لتشميس مكتبة كاملة. والحياة بعين واحدة تعني أن تكتب مترنحاً لأن أصابعك التي كانت حاسمة كوعلٍ باتت تصل إلى الحروف وهي تعرج. 
أن تستيقظ في الصباح للصلاة ثم لا ترى وجهك في المرآة بوضوح بعد الوضوء. تدعك عينيك مراراً وتنضح الماء على وجهك دون أن تعود إليك بعض كِسر وجهك المسروق. ثم تستسلم لفكرة أن عينك الغاربة أصبحت نافذة قديمة مطلية بغبش ثقيل ولاصق يخنق الضوء. لكنك تتنهد أمام المرآة وتمرر إهانتها لك بنكتة. تصلي وأنت تتخيل نفسك قرصان جزيرة الكنز ذي العين الغاربة فتختلط الصلاة بضحكة ودمعة زرقاء. 

العيش بعين واحدة يعني أن تقضي بقية عمرك في الاهتمام بعضو ميت في جسدك. كونه ميتاً لا يعفيك من مسؤولية غسله وتنظيفه كل يوم وجعله نقياً وضاحكاً عند مقابلة الناس وعند الجلوس للمصور الفوتوغرافي. إنه حب من طرف واحد كما قلت. على عينك الميتة ألا تلفت النظر إلى موتها وأن تستمر بإثارة بهجة الآخرين.

أتذكر أن أمي التي قضت أيامها الأخيرة في الاعتناء بخمسة وعشرين ديكاً انتبهت مرة إلى أن عين أحدهم ليست على ما يرام. لم تتردد بإخراج قطرة عينها التي وصفها لها الطبيب وأمرت الخادمة بالتقطير لمدة أسبوع في عين الديك المريض الذي شفي تماماً وانضم إلى مجموعة الخمسين عيناً التي كانت تصنع صباحات أمي!

فقط أفكر أنني لو كنت استطعت الاحتفاظ بامرأة ما لربما كانت انتبهت لمد المياه الزرقاء التي كانت تلتهم نور عيني بهدوء تام.


***************

في الفندق الياباني يضعون ملصقاً تحذيرياً لطيفاً: (نعتذر عن عدم تنظيف أي كأس يحوي بقية سوائل).
يعتذر اليابانيون للنزلاء خوفاً من إتلاف عدسات لاصقة غير مرئية قد يكون النزيل تركها في كأس ماء أو قدح قهوة.
ينبغي التمثل بالروح اليابانية المرهفة التي تقدس البصر. وعلى الأهل الذين يقومون مثلاً بغسل أحبتهم فوق منضدة الموتى ألا يزيلوا العدسات اللاصقة من عيون ذويهم. فكما قلت ينبغي الذهاب للموت بنظر جيد كما يذهب العاشق لرؤية فتاته للمرة الأولى.

 أيضاً على الأهل ألا يزيلوا الأقدام الصناعية من الأموات قبل وضعهم في منازلهم تحت الأرض.

ليس من العدل دفن شخص بقدم واحدة. ليس من العدل تفويت النزهات الجديدة تحت الأرض على من فقد ساقاً فوق الأرض.

ما يبهج حقاً هو أن الموت يعفيك من نصائح الأطباء. فبعد الموت لا يلزمك أن تسقي كليتك كل يوم بالمياه كي لا ينبت الحصى واللؤلؤ في خاصرتك. لا يلزمك أن تسقي عينيك طيلة حياتك بقطرات البيتا بلوكرز كي لا تصبح أكثر زرقة. الموت لا يشترط كل هذه المياه كي تصبح صالحاً للعيش. الموت يقبل بك كما أنت.

***************

مفاتيح الوحيد أكثر ما يقلق بعد الموت. المفاتيح التي يجب أن تظل معلقة على الباب من الداخل أثناء حياته كي يتذكر أخذها معه عند الخروج. المفاتيح التي وزع منها نسخاً احتياطية على الأصدقاء على الأم على الأخت على الحبيبة  المقيمة في قارة أخرى كي يلجأ إليهم عندما ينسى. كي لا ينام في الشارع. 

لا بد في المقابل من المفاتيح بعد الموت ولا بد من وسيلة لعدم النسيان. لا بد أن تربط المفاتيح برباط ضاغط وقوي على راحة الأموات قبل إنزالهم في منازلهم. لا بد من مفتاح البيت كي نفتح باب القبر.

ثمة أيضاً رغبة آمل ممن يقوم باستلام جثتي أن يحترمها. أريدهم أن يتركوا خاتم الذهب في إصبعي، وأن يُسمح لي بالاحتفاظ به بعد الموت. أنا مؤمن بوجود عصفور الذهب الذي يعرف أماكن الذهب تحت الأرض مثلما كان هدهد سليمان يبصر مكامن المياه من السماء.

أحتاج إلى عصفور يزورني ويدل عليّ بعد الموت.

***************

أفكر أنني ولدت جاهزاً للموت! فحين ولدتُ توهمت أمي أن الملائكة قد أجرت لي عملية ختان سريعة أعفت الأطباء من مهمة (تطهيري). وهكذا عشت بفكرة طهور ملائكي مبالغ فيها جعلتني أعيش بقلفة أطول مما يجب. الملائكة في الواقع لم تقم بإزالة الكثير من الجلد. وهذا يعني أنها لن تضطر لفعل شيئ بعد موتي إزاء تلك القلفة.

يقال إنها ستمطر يوم القيامة على عظام الأموات، وحينها ينبت الموتى كثمار مؤجلة من قبورهم ويخرجون عراة بقلفات كاملة. هذا يستلزم بالضرورة أن الملائكة ستجري ملايين الملايين من عمليات إعادة القلفة للذين قام أهلهم بختانهم. ولهذا أعتقد أنني جاهز للقيامة منذ ولدت.

***************

في كل مرة أجلس على كرسي الحلاق أكون متعباً وأغمض عينيّ كطفل أثناء الحلاقة. في كل مرة ينهي الحلاق تهذيب ذقني أو تزيين شعري أو صبغه أكون في وضعية النعاس الآمن والأجفان المغلقة. قال لي مرةً : هل تتعمد المجيء هنا كي تنام؟

 أتخيل أنني ربما متّ على الكرسي جلوساً مثل نبيّ حكيم دون أن يشعر بي الحلاق.
أتخيل أن خصلات شعر الزبون الميت تتهاوى على حجره، وأن الحلاق يستمر دون كلل في تزيين وجه رجل متوفى دون أن يلحظ شيئاً! أليس جميلاً أن نذهب للموت بزينة كاملة؟

***************

  تنبيه: ثمة من قال إن على الشعراء أن يموتوا في السابعة والثلاثين. 


***************

ثمة أشياء لا علاقة لها بمنضدة الموت التي أكتب فوقها لكنني أرويها لأنني لا أضمن أنني سأتمكن من روايتها في مكان آخر.

أشياء مثل التّكّات الخفيضة  لساعة الجار المفقود التي أسمعها كل ليلة.
أشياء مثل الجارة الأخرى التي تضع قطعة أثاث محطمة أمام بيتي كل صباح. الجارة الوحيدة التي تصرّ على بثّ رعشتها الغامضة بمفردات فرنسية! والواقع أنني لا أفهم لماذا يطلق الفرنسيون على الرعشة الجنسية مصطلح (الموت الأصغر) أو La petite mort، بينما يحتفظ العرب بهذا المصطلح لمجرد النوم! 

ثمة أشياء تافهة ليس هذا محلها لكنني لا أضمن أن هناك فرصة أخرى للحديث عنها: الجيم الحلوة التي تتلكأ في فم ماجدة الرومي وهي تغني (يوم ال حبك جننني) في أغنية (اعتزلت الغرام) هي أكثر ما يلفت انتباهي في مسيرتها الفنية. أسمّيها جيم الغرام. وأقلد تلك الجيم في الممرات حين أغني لنفسي فأبتسم. 

أفكر أيضاً بالسيدة الجميلة الطويلة ذات الشعر الأسود التي ترقص بطريقة تثير التعاطف. أعني رفيقة جورجيت صايغ في مشهد بالأبيض والأسود في أغنية (نطرّني ع الشبّاك)! المرأة الحلوة التي كان يمكنها بقليل من الجهد أن تتقن الرقص!

وأفكر بالسبب الذي يجعل خيال الأطباء فقيراً لدرجة أنهم لا يجرون العمليات الجراحية فوق سرير مزدوج مفضّلين الفكرة الراسخة بجعل سرير المرضى المنومين مفرداً.

سيكون شيئاً لطيفاً أن يحلم المنوّم أثناء خياطة عينه بحضن شخص يحبه!  

***************

لو أنهم أيضاً يستدعون بيجان مرتضوي ليشارك الجراحين مهمتهم بكمنجته البيضاء التي ترتاح على بدلته البيضاء وهو يعزف بإخلاص موسيقاه المالحة (شيراز)؟


***************

طلبت مرةً من الموت أن يأتي في الليل:

( لو يجئ الموت ضحىً

حيث الساكنون تركوا شاياً بارداً
في الفناجين
والمقابض بردت من غياب السابعة

لو يجئ ضحىً
على رؤوس أصابعه
خاطفاً قبلةً على سريرٍ بارد .........

سيبدو الأمر
مثل تقبيل جثة
في الفورمالين .

ليأخذني الموت إذاً
في الليل

لحظة أحلم بك )

وأقترح لهذا أن أن يضعوا على الأسّرة مملحة بثقب واحد وأن يخفضوا الأنوار في غرف العمليات حين يجرون عملية في النهار. 



 -------------------------
أتفق مع الخزّاف الذي جعل هزّازة الملح بثقب واحد، وهزازة الفلفل بثلاثة ثقوب.
ففي الحب والموت ليس سوى قلب واحد ووحيد يتعذب. 

 


الخميس، 6 ديسمبر 2012





أوقفني الحب وقال: الأقراط مصابيح المحبين 


                  وقال: تكفي الكتابة في العتمة على ضوء قرط الحبيبة . 

           وحين ترتدي امرأة عاشقة قرطين لا يكون ثمة داعٍ لإشعال مصابيح البيت!

وقال الأقراط أقراص صداع. أقراطها على منضدة الزينة تشفي صداع الأيام


***************

أقراط واطئة أو طويلة معلقة كالثريات


القرط الواطيئ المكتفي بذاته الذي لا يتدلى منه شيئ يشبه مصابيح السبوت لايت.  قرط الطفولة و الحكمة والمطر الناعم. قرطٌ خفيف كنجمةٍ مثبتة في سماء الحبيبة.  القرط الواطيء إضاءة سقف الحب 


القرط الطويل بسلسلةٍ مدلّاة يشبه ثرياً باذخة. أو حبلاً ذهبياً يتطامن ليشم وريداً أخضر في بياض العنق. القرط الطويل على عنقها سجدةُ تائبٍ طويلة على عنق غزال 

*********

أوقفني في الصيف وقال: إذا آذتك الشمس فاهرب إلى ظلٍ خفي يتركه قرطها في بياض العنق. وقال: لا يرى ظل قرطها إلا المحبون 

*********

أوقفني في اليأس وقال: الهواء شحيحٌ حين تكون الحبيبة منيعةً وقرطها سماء محميّة

*********

أوقفني في الضياع وقال: مذ ضاع قرطها الأيسر، والعالم يعرج بوضوح


*********** 

  وحين لا تلبس قرطها لأسابيع: يندمل الثقب الذي يتشبث به الكون



**********

دبوس شعر الحبيبة في تردده اليومي بين شفتيها و شعرها، يسند خيمة القلب مرة .........ويسقطها مرات.

********** 

   لأنك دوماً على عجل. تثبتين قَصّة شعرك بقلم رصاص. وأصبح أنا الطفل الشقي الذي يجد نفسه دون تدريب سائقاً للرافعة الشاهقة التي تهندس شعرك. 
 أصبح أنا  الفراشة التي تتأرجح على سن قلم الرصاص، حين يطعن قلم الرصاص كرة شعركِ الشنيون  



------------------
** مقتطفات من نص سردي بعنوان (حلية القلب) 

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

أعناب الخوف


يكبر الأطفال بسرعة دون أن أجد الوقت لأحدثهم

عن سيف روماني غامض في صخرة القلب

عن الضلوع التي صارت جوقة كمنجات سود

عن بنت خبزتْ قمراً وأطلقت خلفه ذئاباً بيضاء

عن القمر يصبح ثقيلاً في الأيام البيض 

عن العين التي سرق كحلها الليل

عن الفم العذب الذي صار بئرا مسمومة

عن النجمة التي تسممت ببئر في الصحراء شرب منها عاشق عذب

عن الصباحات المغشوشة الخالية من التين والزيتون 

عن قرط الجارة الذي يتسلل ضوءه لبيت الوحيد

عن الخوف الذي يفاجئني كلما اشتريت عنباً من بائع الفاكهة

عن الخبز الذي يحترق بين أصابعي منذ سنوات

عن حليب الأمهات الفائض عن حاجة المدينة بعد انقلاب حافلة أطفال

عن النافذة التي تهدلت مثل صدور الخالات والعمات

عن الشمعة التي تشرب نخب الوردة الميتة في الليل

عن الريشة الوحيدة في صدرالملاك

عن الريح المعاقبة في الركن  كي لا تتحكك بالغيم

عن بهجات الألماس المؤجلة في فحم القلب

عن السجين الذي يناوم زوجته عبر برامج الدردشة في الهاتف المحمول

عن أجراس الفم التي نراقص بها الحياة  كالحواة

عن الحياة المثيرة التي تتعرض للشتم والتحرش اللفظي كل ثانيتين

عن الجيل الرابع من الحب

عن ذمة الحب الواسعة

عن ملائكة هذا الوقت التي تشعر بالخوف

عن النسوة اللائي يتم تسريحهنّ أثناء مشاهدة مباراة في كرة القدم 

عن العصابة الداكنة على رأس الأم

عن المفاتيح ذات الأسنان اللبنية

والعتبة المالحة  التي ينام عليها الصبي كل مساء
بعد أن تم ضبطه أكثر من مرة
 في وضع مخلٍ مع الحياة




الجمعة، 29 يونيو 2012

أكباد الإوز



 تبدو مقاومة المرء لطبيعته نوعاً من المجد لأن المرء قد تمت هندسته بشكل مضمر ليلتذ بأشياء مشوهة.  يحدث هذا لأن الأشياء المشوهة لا تبدو كذلك  في الظاهر، وعلى المرء أن يستمر بهدم نفسه باستمرار كي يصلح من شأنه.
 تمت هندسة المرء كي يكون مستلباً لفخاخ النظرة والعطر والحلوى والوتر والحرير، كما تمت هندسة المرء أيضاً ليندم، حين يكتشف بعد دقائق من عمى معسول أن نزوعه المخدر بالحواس هو في الحقيقة مشروع بكاء.

 في الصين كانت أصابع أقدام الفتيات الصغيرات تربط بشكل معقوف لفترات طويلة لإحداث تشوهات عظمية في أقدامهن قبل الحصول حين يكبرن على مشية أنثوية مشوهة فيزيائياً، لكن العمى المعسول يجعلها تبدو مغرية ، تماماً مثل مشية القطا المترنحة التي كانت ترضي غي الشعراء.

في اليابان يعمى الإنسان أيضاً حين يتعلق الأمر بمائدته. فأفخم اللحوم البقرية في العالم والمعروفة بلحوم الكوبي اليابانية، هي ثمرة تقديم الجعة للعجول و عمل جلسات مساج لها كي تتخفف عضلاتها من ضغوطات الحياة وتصبح دمثة لينة العريكة ومهيأة لأن تذوب في أفواه الأثرياء. 

إن مشهد صرخات العجل الياباني المحاط بستة أخصائيي مساج وشخص سابع يلقم العجل ستة زجاجات بيرة يومياً فضيحة إنسانية لا يستحضرها الأثرياء بطبيعة الحال.

لكن حين يتعلق الأمر بالإوز فإن طغيان الحضارة الفرنسية يتعدى تجهيز الضحية عبر تقديم الخمور، إلى تغذية جبرية موجعة ومستمرة لصغار الإوز بواسطة قسطرة معدنية طويلة تشبه القمع. والهدف من القمع المعدني هو توصيل حبوب التسمين مباشرة لمعدة الطائر قهراً وقسراً كيما تسرع الأكباد بالنضج وتوضع على المائدة بسعر فاحش.

هكذا هي سماء الأثرياء لا تتعفف عن كبود الإوز. وكما يقوم العشاق ب(تزغيط) الحنين وتربيته بلا هوادة، يقوم الفرنسيون بتلقيم الإوز قسراً كي يقطفوا آخر الأمر أكباداَ طرية شهية مكتظة بالدهن، أو ما يسميه أهل الألزاس: الفوا جرا.

حين تقع مفردة (الأكباد) على الأذن العربية يطير المعنى مباشرة إلى الأطفال، فهم في اللغة (أكبادنا تمشي على الأرض). لكن المطعم الباذخ في أحد ناطحات العاصمة الصحراوية أفسد المعنى في أذني وخلط مشهد الأطفال بأصوات الحبوب المسحولة والمنثورة في القسطرات المعدنية، وأكباد الإوز المتضخمة، وبمؤخرات الإوز المدماة ومريئها المتقرح جراء التلقيم القسري البشع.

 كان الزميل الذي دعاني للمطعم المعلق بين السماء والأرض يتلذذ بتناول صحن مقبلات من الفوا جرا بينما كنت سادراً في شريط تاريخي لاهث مستلهم من أكباد الطيور والبشر بالغت فيه مخيلتي تحليقها حد محاولة تفسير عابثة لحادثة (آكلة الأكباد) التاريخية التي تحكي قصة امرأة عربية مضغت تشفياً كبد قاتل أبيها. ورحت أتساءل لماذا الكبد كوسم انتقام تارة، ولماذا الكبد أيضاً كمتعة مخملية في سماء الأثرياء والفحول.

فكرت أن الكبد عضو شريف ومبجل لدى العرب بدليل أن (الكبد الرطبة) في التراث ترمز إلى الحياة، و(ضرب أكباد الإبل) يعني بذل أقصى الجهد في الترحال، و (فلذات الأكباد) هم الأطفال، والعاشق العربي حين يشتكي من غياب الحبيبة يقول إن الحبيبة أتلفت كبده وأشعلتها ...الخ

تأملت بقرف أكباد الإوز الناعمة التي يلوكها صاحبي بلذة وخطر لي فجأة أن سرب إوز يعبر لحظتها فوق رؤوسنا المخملية، وتذكرت، ويا للمفارقة، أن مدربي القيادات البشرية لا يكفون عن استخدام طقوس وممارسات الإوز أثناء طيران أسرابه في مواسم الهجرة كصورة ملهمة لتدعيم فكرة روح الفريق، وهي لقطات من فيلم متداول بكثرة لدى المهووسين بالتنمية البشرية، ويظهر أسرار نجاح الإوز في تطبيق مفاهيم إدارية ومباديء عاطفية خلاقة أثناء طيرانه. 

يثني كثيراً صاحبي على ليونة الفوا جرا وذوبانها في الفم بنعومة، ويتحدث بخبث عن معتقدات شعبية تربط أكباد الإوز بالفحولة.

 أما أنا فأحاول إفساد بهجته بتلفيق دراسة حديثة تربط بين الفوا جرا وتشمع الكبد. حينها يلعن قلة ذوقي بينما أبتسم وأرسم باصابعي تحت الطاولة، وبشكل سري، علامة انتصار (V) كتلك التي تصنعها أسراب الإوز التي سلمت من عناية البشر.



الأربعاء، 6 يونيو 2012

الكتابة مشياً تحت سقالة



من أشياء ساقطة يحذرني البناؤون.

 لكنني أمشي وأستلطف الكتابة مشياً تحت سقالة الأشياء الساقطة. 

أن تكتب تحت احتمال الأذى
أن تكتب تحت سقالة: متعة أن تحصي قتلاكَ محفوفاً ببساطير البنائين
أن تكتب تحت احتمال سقوط أشياء
 طيلة الوقت
 طيلة الحب
طيلة الأمهات

أن تقضي شطراً من حياتك مشياً تحت سقالة لا تنتهي، مستغنياً عن مظلة المطر، دون أن يغيب احتمال سقوط أشياء أخرى على رأسك غير أحاديث البنائين عن الطقس، والرذاذ من سوائل أجسادهم، ورماد السجائر. 

اليافطة المعلقة (خطر: أشياء ساقطة) ليست دقيقة تماماً.
 فالمشي الطويل اليومي تحت سقالة أقل خطورة من الجلوس في شقتك لأيام دون مشي.
والمشي لأشهر مع لا أحد تحت السقالة المعمّرة الباردة في بورتلاند ستريت (مانشستر) أقل خطراً من المشي في شوارع الحياة المحفوفة بصوالين التاتو  وموسيقى التكنو والجميلات اللاتي تقطر منهن الطفولة والسيلان


المشي والفرجة الحرة تحت سقالة المشفى الجديد أقل خطورة من تناول العشاء وحيداً كل ليلة برفقة ام بي سي ماكس

المشي تحت سقالة، أي سقالة، يعني أن هناك أكتافاً ستكاتفك، ومعاطف ستتحكك بقميصك، وروائح جيدة أو سيئة ستدخل منخريك الذين لا يشمان أحداً في العادة غير رائحتك الباردة.

المشي تحت سقالة الحياة يعني أن تتوقع، وتنحني،وتَخْفض، وتصطدم، وتتمايل كغصن مع موجات العابرين في الممشى المظلل النحيل


فلتسقط الأشياء الساقطة التي تحذر منها اليافطة.
عندها على الأقل أموت علناً بشهادة الشهود وحضور البنائين، دون أن يكون موتي فيلماً صامتاً، مقيداً ضد مجهول، في طابق سابع لم تدخله امرأة أو باقة ورد منذ سنين

فلتسقط تلك الأشياء الخطرة التي يحذر منها المسؤولون عن الحياة
 فالسقالة التي تصل بين المشفى القديم والجديد، تصل أيضاً بين ضلعين في زمانين. بين ثلاجة موتى دخلتها مرة شاهداً مرتبكاً على جثة الأب ثم الآن ألجها جثة مكللة بالأمان. بين مسجد أزوره زمناً طويلاً بقدمين كسولتين ثم محمولاً الآن بخفة تخطف القلب على الأكتف المصقولة لعمال البناء.


أكتب تحت سقالة متفرجاً على سقوطي من أضلع الأصدقاء الشاهقة وهواتفهم.
 من مسيّر الرواتب في الدور الخامس ومحاضر لجان الأمل، وقوائم الفولوينج في الشبكات الاجتماعية. 
أكتب متأملاً سقوطي الحر من أبراج حمام هواة الحكمة الضالة والبستنة الذين لا يدركون حجم المتعة التي تزهر الآن وأنا أشاهدهم يقلمون اسمي من أجهزتهم الذكية مثل عشبة ضارة.
هؤلاء الذين يمنحونني إحساساً سرياً بالخفة وهم يركلونني في الهواء، وينظفون حياتهم مني. لكم أشعر بالغيرة حين أرى نجاعتهم في التخلص السريع من الأشياء الزائدة والميتة التي توقفت عن الإلهام  وإصدار الأصوات.


وهأنذا أقرأ لافتة الأشياء الساقطة، وأبتسم للحياة التي تهطل متأخرة بعد سن يأس التراب، متأملاً أوجه الذين قرروا الاحتفاظ بالعشبة الضارة بين بلاطات أضلعهم ولم يحفلوا بكنس أسماء الموتى من هواتفهم الوفية اللامعة.

 أعدكم أيها الأصدقاء الذين تعرفت عليهم بشكل أفضل بعد الموت. أعدكم بعد وفاتي تحت سقالة الأشياء أن أعمل بجد لأكون  زهرة تجدونها في مكان ما

الجمعة، 13 أبريل 2012

غيّ الحلازين





الكائن الرطب الذي يحمل منزله فوق ظهره كالغجر ومشاة المتنزهات الوطنية.

 اللدنُ الذي ندهسه سهواً بأحذيتنا في الليالي الممطرة.

سيدُ الدأب والبطء. 

ننام بينما يحيل بدأبٍ ردهة البيت والسجاجيد إلى فضة، إلى كرنفال زحلقات، ومدينة ملاهٍ لسائح وحيد هو ذاته الهشة المحقونة بالمياه.

السيد الذي لا يأخذ الحياة على محمل الجد، ولا ينتظر أحداً، ولا يبحث عن قطعة أرض.


السيد البزّاق.

يبصقُ على العالم في الليل ثم يمضي غير عابئ بخلفاء الإله في الكون، ولا بتعويضهم عن الأضرار التي تلحقها بصقته بأرائك المخمل والسجاجيد وخشب الأرضيات.

بصقة الحلزون هي سيارته الرياضية المكشوفة التي يستقلها في نزهات الليل.

 يبصق ويتزحلق فوق حريته، رافعاً قرني النصر واللامبالاة، ثم يغادر بخفة قبل أن نكتشف آثار حفلاته الصاخبة في الصباح.

يعلمني البزّاق أن مركبة الليل تصنع من حوار مع غُدد الذات، وأن محركها الفضي هو الرغبة بالخروج وتلطيخ العالم بلعاب الصدق.


فريسة الملح والخمر.

جربت ،كبشريّ، نزقَ الدفاع عن منزلي ضد طيش الحلازين مستخدماً أسلحة تبيحها جماعات الرفق، كالملح والخمر.
 
أكمن للحلازين تحت ضوء القمر، وأذرّ فوق أجسادها اللدنة ملحاً ناعماً فتنتفخ أجسادها وتنفجر.
 ينفخ الملح أجساد الحلازين كبالونات طارداً من أجسادها الماء، فتنفقُ، وتتصاعد من ظهورها فقاعات النزع الأخير والغرغرة.

ولأنني تقززت من مشاهد التفسخ التي كان يصنعها بارود الملح بالحلازين الطيبة، قررت إنهاء مغامراتها الكونية بطريقة أرحم: أن تقضي غرقاً في مسبح مملوء بالخمر، فيبدو الأمر، مثل نهايات المشاهير، قضاء وقدراً، ودون دماء: جرعة زائدة من المحرمات!

يستطيع الحلزون التزحلق فوق شفرة حادة، لكنه لا يستطيع تجاوز شهوة الفناء.

 لا يطيق الحلزون مقاومة الحفلات، ومنها بالطبع حفلة الموت.
وعندما أخبرني جاري عن حب الحلازين لرائحة البيرة، قررت نصب كمائن من البيرة لها في حديقة البيت.

في الصباح كانت الحلازين الغاوية طافيةً، مكللةً بموت ناعم، سعيدةً كمشردي الشوارع، ومضرجة بالخمر.
 
في (سأم باريس)، كتب بودلير: لا تكونوا عبيداً معذبين للزمن. اسكروا بالخمر، أو بالفضيلة، أو بالشعر. بحسب ما تهوون. المهم أن تسكروا! 

لكن هل كانت الحلازين معذبة مثلنا للزمن، حتى تخسر الرحلة عند كمين البيرة الأول؟
أم أنه شغف الذهاب إلى النهايات والأوطان، مثلما يحصل لفراشة تظن النار غمزةً من الفراديس.
 

-----------------------------

مانشستر- مارس- 2012

السبت، 7 أبريل 2012

ضوء يغطس في المحيط


-1-
بعد أربعة وثمانين عاما من الكارثة، وبعد أن نقضت حبالها المئة، صعدت السيدة روز مقدمة سفينة البحث الامريكية في الاطلسي، تماما فوق حطام السفينة الغارقة تايتنك ، ثم انفرجت أصابع يدها الراعشة عن قلادة زرقاء رائعة تركتها تهوي في قلب المحيط، كأنما ليمسح الضوء الازرق الدافىء وجهاً نافقاً وبارداً في المياه.
الشهقة الطرية التي انفرطت من جوف السيدة روز لحظة انزلقت منها القلادة تتجاوز الثمانين عاماً بعد أن ظلت كل هذه السنوات مركومة في صدرها الموصد كصدفة.
تخرق الجوهرة الماء، ترقد الآن في قاع المحيط، فتستيقظ الغرف والموتى، وتضيء فجأة ثريات السفينة الغارقة وتمتلىء القاعة بالضيوف.
تعود السيدة روز من مقدمة سفينة البحث الى سريرها لتتم حلمها الطاعن في الضوء تشق صفوف الضيوف، ثم تصعد السلالم بخفة السابعة عشرة لتمس يد الشاب التي بردت منذ عقود ، جاك دارسن.
هكذا يرسم الكاتب والمخرج السينمائي جيمس كاميرون قفلة فيلمه الأخير تايتنك ، الفيلم الذي أثار قلق مموليه لارتفاع تكلفة انتاجه البالغة مائتي مليون دولار، هكذا: بثروة تهرق و حلم يضيء.
ومع أن الفيلم يتناول أساسا كارثة غرق السفينة تايتنك في عام 1912 إثر اصطدامها بجبل ثلجي عائم في شمال الأطلسي، إلا أن كاميرون مخرج (تيريمناتور2 ) لا ينزلق إلى توقعات من انتظروا مشاهدة فيلم كوارثي يعتمد التشويق و الإبهار التقني ولقطات الحركة المتقنة، الأمر الذي كان سيحيل الفيلم الى مجرد سرد تسجيلي للكارثة.
- ينجح كاميرون في التقاط مصل حي يحقن به ورك الكارثة من خلال نسج قصة حب ضارٍ بين الفنان الشاب جاك (ليوناردو دي كابريو) والثرية الشابة روز (كيت وينزلت) ، يلقي بعدها بالقصة بانحناءاتها وتقلباتها الدرامية في بؤرة الحدث الكارثي الذي يسهو عنه المتفرج طويلا لانشغاله بمتابعة تناميات الوشيجة المذكورة، حتى أن حضور الكارثة في الثلث الأخير من الفيلم يبدو مصعّداً، ممتزجا، ومتمماً للعلاقة الانسانية في أحلك لحظاتها - لا يحدث الاصطدام الهائل الا بعد ساعتين من بدء الفيلم البالغ طوله أكثر من 3 ساعات!
-2-

- يبدأ الفيلم بالزمن الحاضر حيث فريق غوص أمريكي على متن سفينة في شمال الاطلسي يحاول العثور على مقتنيات مهمة بين حطام السفينة الغارقة " تايتنك" والتي كانت تقل ألفي راكب بينهم عوائل ارستقراطية ثرية من أوروبا الى أميركا.
يعثر فريق البحث على خزنة يعود بها الى سطح السفينة، وبعد أن تفتح أمام شاشات التلفزة العالمية لايعثر الخبراء إلا على كمية من الطين والأوراق التالفة وبورتريه لشابة حسناء يتوسط جيدها قلادة.

 تتصل امرأة عجوز برئيس الفريق لتخبره بأنها تلك الفتاة التي في اللوحة وأن العقد عقدها، وهكذا يتم إحضار العجوز السيدة روز الى سفينة البحث لتدلي بشهادتها وتسترجع سيناريو الكارثة عبر فلاش باك طويل يستغرق المدة المتبقية من الفيلم.

- وهكذا تبدأ خيوط الوشيجة الانسانية في التشابك والتعقد بدءا من تعرف الفنان الشاب جاك على الثرية الارستقراطية روز المخطوبة لشاب ثري يسافر في ذات السفينة، وانقاذه لها - اي جاك - من الموت غرقا بعد أن حاولت القاء نفسها في المحيط بسبب ضيقها بهذا الزواج وتقاليده الارستقراطية الصارمة . تنجذب روز إلى عالم جاك البسيط وسط رفض العائلة ومحاولات الخطيب الثري للايقاع بجاك وتلفيق التهمة له بسرقة جوهرة زرقاء كانت روز ترتديها ثم يأخذنا المؤلف الى سلسلة من الاحداث المشوقة تنتهي باصطدام السفينة ومحاولة ركابها للنجاة.
 يظل جاك في مياه المحيط طوال الليل ممسكا بجزء من حطام السفينة تتمدد عليه روز حتى يموت متجمدا وتنجو هي بعثور سفينة أخرى عليها.
ويبدو أن قصة الحب هذه هي الجوهرة الحقيقية التي عثر عليها فريق الغوص بعد 3 سنوات من البحث، ويبدو ما سبق تلخيصا لابد منه لتتابع المشاهد في الفيلم بغية إشراك القارىء في التعليق والمتابعة.
 
-3-

يمكننا أن نتحدث الآن وبعد عرض موجز لتتابع المشاهد في تايتنك عن الجماليات البصرية التي يثيرها الفيلم في حواس المتلقي العادي والمتخصص على السواء.
ويمكن القول إن وشيجة الحب الخافت والضاجّ في آن والتي نسجها كاميرون مخرج الفيلم قد نجحت في إنقاذ الفيلم من الغرق بعد أن غرقت السفينة الباذخة ومعها مائتا مليون دولار في الأطلسي!
لقد كان عشاق الفن السابع بحاجة الى ملحمة رومانتيكية هائلة تعيد الى حواسهم شيئا من الهدوء الانساني والدفء الذي افتقدوه في غمرة الصخب والعنف والضحك الاستعراضي مع موجة أفلام تحتفي بالحركة والإبهار التقني والاستعراض، ولهذا السبب يواصل تايتنك حصد النجاحات محققا بعد أسابيع قليلة من عرضه أكثر من اربعمائة مليون دولار في دور العرض العالمية، وما زالت عروضه وايراداته مستمرة


إن تايتنك ليس مجرد فيلم ممتع. إنه من تلك الأفلام التي تحتشد أيضاً بجماليات بصرية وثراء فني لافت بدءاً من إيقاع الفيلم وحركة الكاميرا وسلوك الاضاءة وغيرها من أساسيات صناعة الفيلم.
وإذا كان الإيقاع عنصرا أساساً في بنية أي عمل فني سواء كان هذا العمل شعرا أو رواية أو موسيقى فإنه في الفيلم جوهري لوصول العمل الى العين بالشكل الذي يضمن معه المخرج أقصى طاقاته التأثيرية.
وقد وفق كاميرون في ضبط المدد الزمنية للقطاته لتتوافق بشكل متقن مع طبيعة الحركة والموقف الانفعالي والدرامي للمشهد نفسه بحيث بدا تقطيع اللقطات رافدا متقنا للجو الذي تعبر عنه اللقطة سواء باستخدام التقطيع السريع في المشاهد التي تصور الذعر والهلع الذي أصاب ركاب السفينة بعد الاصطدام أو التقطيع البطيء في مشاهد أخرى يتطلب نقل حمولتها النفسية تمددا واسترخاء في زمن اللقطة.
وبالتنويع بين هذين الأسلوبين الايقاعيين استطاع كاميرون احتواء حركة ابطاله وانفعالاتهم مثلما حركة الماء والأجسام المادية في مشاهد الفيلم ( ليلى الاحيدب مارست هذا المزج الايقاعي السينمائي بنجاح في قصتها (حركة - صنم).
ومن الأساليب التي استخدمها المخرج ايضا لإثراء إيقاع تايتنك أسلوب المزج (1) في تنفيذ القطع السينمائي بين لقطة ولقطة لتخفيف الشعور بالقطع الزمني وإذابة زمنين في مجرى واحد.
والمزج (أسلوب لتركيب لقطة فوق اخرى بطريقة يتم فيها اظهار شكليهما يمتزجان او يذوبان في بعضهما) وقد نفذ كاميرون هذا الاسلوب في أكثر من مشهد للانتقال من زمن الكارثة الى الزمن الحاضر وبالعكس، ففي مشهد ما تقع عينا العجوز وهي تتذكر الكارثة على تسريحة أثرية نادرة تخص غرفتها في السفينة الغارقة. تظهر التسريحة بخلفية رمادية مضببة مما يضفي ضوءا عتيقا من الغموض والحلم وجلال الآفل. ما أن يقع بصر روز على التسريحة حتى تعود الكاميرا الى ذات اللقطة الرمادية وهي تمتزج وتتحول بفعل ماء نظرة روز.

 كأن النظرة على الأثر تغدو حمض تظهير للذاكرة والأثر، وهكذا تمتلىء مسامات التسريحة الخشبية والمرآة بلونها الطبيعي، ثم تبتعد الكاميرا ويتسع مجال اللقطة ليظهر باب الغرفة وتدب الحركة في المشهد بفتح الباب ودخول جاك وروز قبل الغرق بساعات.
ذات الأسلوب يستخدمه المخرج بشكل عكسي لتركيب ثلاث لقطات في لقطة واحدة بعد أن ينتهي جاك من بورتريه روز، إذ يمتزج وجه روز مرسوما، بوجهها في السابعة عشرة، ثم بوجهها بعد المائة أثناء سردها حكاية البورتريه لفريق البحث في دلالة زمنية تعني وتختزل الكثير.
ولتجسيد الثراء والتنوع الذي حمله عنصر الزمن في الفيلم يستخدم كاميرون إلى جانب الأساليب الايقاعية السابقة أسلوب الاختفاء بمعنى امحاء اللقطة تدريجيا واسودادها على الشاشة لإنهاء مشهد أو زمن والانتقال الآخر الى جانب الاضاءة الزرقاء الخافتة أو الرمادية لمشاهد الفيلم والضبابية التي كان يمنحها التركيز البؤري للكاميرا في بعض المشاهد مما ساهم فعلا في ايصال الصدمة البلاغية لجوهر العرض: الحب، والزمن.
 -----------------------------
-1-  استخدم الشاعر الاماراتي عبدالعزيز جاسم هذه التقنية السينمائية باتقان في قصيدة ·فوق نظرتها مشت عربة 
* نشر المقال في جريدة الجزيرة السعودية (12 مارس 1998)، وأعيد نشره بمناسبة إعادة عرض الفيلم هذا العام بتقنية الثري دي



الاثنين، 27 فبراير 2012

ساقا الغزالة







أسميكِ الغزالة مثلما كانوا يسمون والدكِ: الغزال
وأقول حين أرى الغزالة: ساقا الغزالة هشتان

ساقاك الآن عودا قصبٍ تصّفرُ فيهما الريح لحن الوحشة والنهايات  

ساقاك هشتان لا تتحملان وطأة طيور الألم السمينة التي تتزاحم على كتفيك كل صباح

 حيث الغزالة محبوسة في حصة البطء الصباحية التي لا يحدث فيها شيء ولا يرن فيها هاتف ولا تزور فيها جارة ولا ينحني فيها سياج لساقيك اللتين فقدتا ذاكرة القفز والسهول 


 ومع كل حقنة إنسولين تخترق فخذكِ في الصباح تنشدين:

لا واحلالاة يا السيقان _ لو ينشرن كان أبشريها
كلٍ يدور على السيقان_ وبالسوق مهوب لاقيـها



أتأمل ساقيك يا سيدتي لأن الغزالة التي ركضت كثيراً إلى الآبار لا تستطيع الآن أن تقف لتشرب بنفسها حين تنضب السكاكر في دمها في الليل وتخطفها سماوة النسيان

 أكتب عن ساقيك يا أمي لأن الغزالة التي علمتنا المعانقات وقوفاً لا تستطيع الآن أن تتكيء على ساقيها كي تعانق 

أكتب عن مجد ساقيك اللتين وقفتا لعقودٍ كسنديانتين فوق بلاطات المطبخ وأنت تعدين لنا وجبة في ليالي الشتاء دون أن تتململا من الوقوف 


أستعيدُ خفة ساقيك اللتين وقفتا طويلاً كسارية وأنت تطيرين في الهواء قشور القهوة التي تحمصين بخفة الحواة، أو تخدرين لنا شاي الفجر قبل المدرسة

وأتحسر على مجد ساقيك لأنني حين أرى سيقان الواثبات والعارضات ولاعبات التنس والأكروبات وفتيات الباليه أقلل من مواهبهن حين أتذكر غزالة الماء التي كانت تنقل بخفة،  قدور المياه فوق رأسها عدة أميال كل يوم، دون أن تسندها بيدها، ودون أن تخسر قطرة ماء في الطريق إلى البيت

وأكتب عن ساقيك المتهدمتين الآن لأنني أخجل وأنا أتذكر ركضهما بي في الشموس لأميال بحثاً عن طبيب  في الظهيرة يسعف جلد الرضيع الذي غافلك وأحرق أفخاذه. ثم حين لا تجدين مستوصفاً ولا مسعفاً، تركضين بالطفل ذات المسافة، عائدة بقدمين مشويتين في صيهد الصيف

أكتب عن ساقيك الخائرتين الآن لأن على عشاق الدنيا جميعاً أن يخجلوا من  ساقيك اللتين تسلقتا مرة دار الزوج الذي تركك وذهب مغاضباً إلى الصحراء دون أن يمنحك مفتاحاً ولا وعداً. 
 لكنه حين عاد بعد أسابيع فوجيء برائحة قهوة تنتظره، ودار نظيفة، وامرأة محبوسة تعد القهوة كل صباح وتنتظر عودة الحبيب الهارب.
وحين أقول ممازحاً: هل هناك امرأة في هذا الزمان تفعل فعلتك؟ تقولين بيقين يخطف القلب: تسلقتُ كثيراً من أجلكم! 


أتذكر أمجاد ساقيك فأخجل من كل خطوة أخطوها حين أرى ساقيك المكبلتين بالوهن، وأحاول عبثاً أن أبتكر لك ساقاً أو أتخيل مرهماً سحرياً يمنحك حصة مشي ولو لساعة في اليوم

أكتب وأنا أشعر بالعُقَد التي نفثها العمر في ركبتيك، والسوائل التي تتصلب في مفاصلك يوماً بعد يوم  فلا تقوم ناعورة الأمل بعملها كما ينبغي، وحين تصدأ قواديس الناعورة وتخذلك ساقا الغزالة من جديد، تنظرين إلي وتقولين بنصف ابتسامة:

لا واحلالاة يا السيقان – لو ينشرن كان أبشريها