السبت، 3 ديسمبر 2022

غبار النجوم

 



لم أعد أعرفني بعد أن فاتتني النظرة. 

كانت عيونكِ مشغولةً بانهياراتٍ بعيدة، هدبكِ بانثناءاتِ التانغو، وحاجباكِ بخفة الحواة.

كانت لكِ نظرةٌ من ثلاثة أدوار. في كلّ طابقٍ جزء. وكانت نظرتكِ تخرجُ في وقتٍ واحدٍ من ثلاثة شبابيك.


وأنا الجالس أمام زجاج النظرة، صرتُ رماداً مقوى بعد فشلي في التقاط نظرةٍ واحدةٍ منك.

النظرةُ التي احتفظتِ بها طيلةَ الوقت. نظرتكِ التي كنت تحرسينها بمالديك من فولاذ ومداميك. 
أكنتِ تخبئين النظرةَ في فمك؟ أكان عليّ البحثُ عنها في فمكِ بدلاً من محجريك؟ كيف ما انتبهتْ؟!

النظرةُ التي لم أعرف لها شكلاً، جرّحتني، لأنني لم أرها على الإطلاق. النظرةُ المخبأة في عينيك أخفتني لأيام. لم أعد أعرفني بعد ذاك الليل، لم أعد أعرفُ أنّ لي جسداً يتعثر ويمرض، أو ظلاً يراه الراقصون حول طاولتك البيضاء. 

كنتِ النهرَ الذي يتسلى بالحجارة والمنتحرين. وكنتِ تمحين مستقبل الأيام بمنع تلك النظرة من الظهور. كنتِ تحمين أطفالاً وآباءً في مكان بعيد من حياة جديدة طائشة تلوحُ في تلك النظرة. كان موتُ النظرةِ تلك حياةَ الحياةِ الرتيبة القديمة التي تخشين عليها من كل شيء. وأنا الجالسُ كنت أختفي بشكلٍ تدريجي مع كل لحظةٍ تمنعينَ فيها نظرتكِ من السطوع.

كانت عينكِ ميتةً تقريباً. ميتةً بشكلٍ واضحٍ، حتى وأنتِ تطلقين الضحكات. أكانت الضحكةُ حارسةَ الضوء الآتي من عينيك؟

ولأنك لم تنظري أبداً إلى عيني أحدٍ من قبل، لم يكن في عينيكِ حتى حجرُ زهر. لم يكن في عينكِ فرصةٌ لانبلاج الصدفة أو انشطار النبيذ. كأنكِ خبأتِ نظرتكِ في صقيع النيتروجين. وكانت نظرتكِ المردومةُ ثقباً في صدر من يراك. كانت نظرتكِ المحميةُ في المحجر شتاءً صلفاً وهواءً يقتل الطير.

في اليوم السادس خُلِقَ التعب، وفي السابع نام كلُ شيء في عينيك. وكانت نظرتكِ الغائمة غبارَ النجوم التي طويلاً إليها نظرتُ. 

نظرتكِ المردومةُ نيزكٌ باردٌ يثقب الطاولة الباردة البيضاء. أرى صداعاً مخفىً بمهارة خلفَ أذنيك. أرى في نظرتكِ غبارَ النجوم الذي يخلق الأطفال. ويَذهَبُ الغبارُ حين أفكر فيك. تُتعبني أيامُ السماء الصحو. يتعبني صوتُ النجوم حين أنام.  أعرف أن نظرتكِ الكسلُ المتعمَّدُ للبرق. أشدُّ بصيرتي بالنظر بلا طائلٍ إليك. مفكراً أنّ نظرتكِ الجانبُ المشمس من شارع الصباح. أنّ نظرتكِ الإبرةُ التي كانت أمي تطلبُ أن أنظمها كل مساء. أن نظرتكِ الغائبة ساعةُ ذروةٍ. وأنا كلُّ هذا الزحام.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

أحجار

 



وحدها الظنون تكتب وصفة الليل.

*

‏دليل القافلة، يبتلع قبل النوم علبة كاملة من النجوم.

*

‏من فم العائلة  لا من فم الليل، تتساقط الكوابيس.

*

‏الليل يانصيب، ولا أحد يفوز فيه.

*

خُلق الليل على هيئة قمع، فاجتذب الأسئلة والعيون.

*

الليل لحية أب تشتعل فيها نجوم أبنائه الغاضبين.

*

‏ الليل، كل الليل، ولد من ليلة واحدة، شعرنا فيها دفعةً واحدة بكل الكلمات.

*

كل شخصٍ ليل. كل شخصٍ يسقي ليله بعض ملامحه، وكل خطاياه.

*

القمر هزيمة كاملة. هزيمة جماعية تحدث كل يوم.

*

القمر بطنٌ امرأة أحبلها الصمت الطويل.

*

لأن الآباء نظروا طويلاً إلى القمر، أصابتنا لعنة الفقد.

*

‏يطير القمر ، لأنه لم يسمح للعصفور بنقره في الصباح.

*

يمرّ القمر فوق زنزانة فردية كما يمر فوق صحراء.

*

‏ما الذي يصيب القمر حين يبصر إنساناً يموت؟ هل يعوي البدر حين يمشي تحته السعداء؟

*

أول رجل شاهد القمر، لم يعرف الكتابة، وبسبب هذا فقدنا قوائم الناجين .

*

القمر دمعة الله. والخسوف خجله من السراة.

*

‏ما نكتبه عن الليل دمٌ فاسد.

*

نهلك حين نقرأ، لأن الكلمات هي الجفاف.

*

يأتي الليل لأنه لا يمكن الخروج عليه.

*

يفور الشاي الهندي في زجاحة الإبريق، يعرق السقف، هكذا يزداد طول الليل.

*

يبقى رجلٌ مستيقظاً طوال الليل، لأنه يخاف أن يحلم به أحد.

*

‏الليل صفحة بيضاء. مرآة لم تستخدم في غرفة الفيلسوف.

*

‏ تتبخر الكلمة، يبتلع سبينوزا خاتمه، ويلوح القمر في الأفق، كديكتاتور صغير.

السبت، 29 أكتوبر 2022

أجراس

 




أعرف أجراساً أكثر من أجراس الشك. 

أجلس في مقهى ينشر أجراساً نحاسية في سقفه. أجلس، ولا أدري ما الذي تفعله امرأة مرهفة في مقهى يقرع الأجراس؟ 

حين يطلب الزائر قهوةً يقوم النادل بعد أن ينهي تخمير القهوة بقرع جرس بيده. يتوالى قرع الأجراس هنا وسط الأحاديث الخافتة.  يقرع النادل جرسي وأنهض للقهوة. تتحدث المرأة المرهفة في هاتفها عن ولد يعاني الرهاب. هل ما زال يرفض الاستحمام؟ تهتف المرأة. وأفكر  .. ما سر هوس المعالجين بفكرة تخلي شخص فجأة عن الماء؟ كأن الاستحمام دليل براءة.

على كل طاولة وضعوا جرساً من نحاس. فوق رأس المرأة المرهفة كانت تتدلى أجراس من السقف، وفي يدها يتعرق قلمي المعدني الثقيل. 

كانت تتحدث وتكتب بالقلم فوق منديل، وكنت أنقر بيد واحدة فوق اللاب توب. كنت أشك ثم أوقن أنها ستذهب بالقلم بخفة الحواة المترحلين، هي التي تتحدث بصدق فني مع أمٍّ متخَيلَة عن إدمان ألعاب الفيديو ورهاب المناسبات. كان لها جمال الجواسيس وتحيط بها هالة من ثراء بغيض. وكان قلبي ينوس مثل بندول صدىء، وهو يتصور اختفاء القلم الذي أحمله منذ أكثر منذ عقد. القلم الذي شاهد كل شيء سيذهب الليلة مع امرأة مجهولة تحيط نفسها بهالة من طب وغموض وثراء. 

كانت أقراطها تكفي لإشعال حرب، وساعتها كفيلةً بعلاج التاريخ. لا أدري كيف صدّقتُ امرأةً لا أعرفها، وأعرتها قلم العيش الذي لم يفارقني منذ سنين؟ ولا لماذا تركت المرأة كل الجيوب في المقهى واختار بصرها قلمي المسالم المطمئن في الجيب. 

حين استسلمتُ للخسارة وأغلقتُ سحاب حقيبتي لأغادر المقهى، تدلتْ يدٌ من لا مكان. أشهرتْ يد المرأة قلمي في وجهي. كأنها سخرتْ من عماي، من نوبة القلق، وهي تدفع القلم ليلمس يدي الباردة الغائبة عن الوعي.

كان قلمٌ يحط على يدي وكان محاطاً بدفء سافر. كان نبضٌ وكانت شعلةٌ زرقاء تحيطان بالقلم الأسود. شعرتُ بما يشبه الشمس المجوسية في أصابعي حين استعدتُ القلم. شعرتُ أنني عدتُ للحياة أو عدتُ للموت. شعرتُ بالخواء والامتلاء. شعرتُ فجأةً أنني أضعتُ حياتي. وكان هذا مريحاً أو قاتلاً. وددت لو أن هذا كله لم يحدث. أفكر هل سممت المرأة التي تتحدث عن الرهاب قلمي الثقيل؟  والسم .. سينفذ إلى جلدي قبل حلول الصباح؟

توقفت يدي فوق القلم، ولم تتوقف الأجراس. 

السبت، 24 سبتمبر 2022

القُبلة



أصحو وأفكر كيف يمكن للواحد أن يعرف إن كان مرئياً أو غير مرئي؟ 
أفكر أنني الآن غير مرئي قليلاً، وأنني على أهبة الاختفاء.
أعرف ذلك. لأن أول ما أقوم به كل فجر هو اختبار القُبلة. 
أن أمشي مباشرة من السرير باتجاه النافذة، منحنياً بما يشبه الركوع لتقبيل الحمامة التي تتمشى فوق ضلفة النافذة. 
أقبّل أول حمامةٍ تهبط في الصباح. أقبلها بقوة خلف الزجاج الشفيف عدة مرات دون أن تطير.
 يستغرق الأمر أحياناً ثلاثين ثانية لتشعر الحمامة بظلي وظل القبلة قبل أن تطير.
 لذا أملك إثباتاً على أنني حالياً غير مرئي، غير مرئيٍ قليلاً. غير مرئي لثلاثين ثانية. 
أقوم باختبار القبلة كل صباح. نَمَتْ لديّ رغبة غامضة بمواصلة الاختبار. أقول لعلّ؟ لعلّني أنجح يوماً في كسر الثانية الثلاثين، والاختفاء تماماً عن العيون. 
أقبّل الجناح مرةً، الذيل في الصباح التالي، البطن، العين، المنقار، العنق، والأقدام...
 سيأتي الجزء المناسب من الحمامة المنتظرة يوماً ما ليأخذني معه، وأكون الرجل الذي تخلص من ثقله وتلاشى في طائر وقف يرتاح على النافذة.
يتطلب الأمر الكثير من القسوة لتكون شخصاً غير مرئي: ثلاثة عشر عاماً من النوم الانفرادي. وحشةً ثابتةً من طابقين. العيش حافياً، الصمت لساعات،والتجول عارياً في البيت طيلة الأيام.
 تفهم مع مرور الوقت أن العري حيلة ناعمة كي يتجه المرء في النمو والارتقاء إلى تلك الجهة القديمة المعاكسة: جهة الرجل الذي نجا من اللباس، هناك حيث انكماش فصوص الدماغ، وخسارة الكلمات والمواقيت والأحلام.
أصحو كل يوم قبل نزول الأشياء ، أواصل التجربة، مؤمناً أن هناك أحداً سيأتي، لأخذي من البيت.

 

السبت، 27 أغسطس 2022

عصفور

 


كنا نتبادلُ النقطَ بدلاً من الكلمات، 
أتركُ نقطةً وتتركين نقطةً في صندوق الأحاديث،
ونُفاجأ أن كلابنا تصل في وقت واحد، كل مرة، إلى المخطوطات.

كنا نترجم دون قصدٍ قصيدةً شائهةً لآن ساكستون،
ثم نفكر هل ستكون آن سكستون سعيدةً بعثور شبحين، في نفس الوقت، 
على قصيدتها الأكثر وحدةً في مرآب؟
 أتركُ نقطةً وتتركين نقطةً في الصندوق،
ونفكر أن النقطة هي الكتاب.

نتذكر ونحن نحصي الضحايا عصفوراً أحمرَ غاب فجأة عن شاشة الليل.

كان نائماً على ارتفاع سبعين متراً فوق شجرة السيكويا، قبل أن تهوي الشجرة، وينزف لأيام. 
بعدهُ، شاهدنا البذور ارتباكاً في مقلاة الشمس. وألفينا الخبز الأحمر وحيداً في صحن الغريب. 

العصفور يخرج من حنجرتي الآن،
يطارد بريشاته الجدد كل نقطةٍ يراها في البيت. 
يفتح بمنقاره الكتب الطريحة على الأرض، 
يخبرها عن تعبه من فكرة السماء، 
ورغبته في أن يكون نقطةً على السطر.

الجمعة، 26 أغسطس 2022

الظِلال

 




كانت الظلالُ تتوردُ على ترقوتك الغائمة. وكانت شموسٌ تتأهبُ من كل مكان.

كانت البجعةُ تطوي قدمها عالياً باتجاه السقف، وكان الهدوء يسقط من رأسها على سجادة التمرين. 

كنتِ تسحبين جرعةً وركبتكِ فوق عُنقِ الوقت. 

كان جسدك في الخلوة يعترف للمطاط، والوقت يكفّ عن أذاك. 

كنتِ تنسلين من الأيام الماضية في اليوغا،

ولم نكن نعرف إن كان قرص الشمس يسقط في قدح القهوة الذي تشدين به يدك، 

أم إن قدح القهوة كان يغطس في يدك، لتلتئم عَظْمةُ الصباح.

الاثنين، 20 يونيو 2022

البروق

 



البروق مكالمات فائتة لا يرد عليها الأصدقاء.


ندرك هذا في الصباح بعد توقف الأمطار، حين يتحدث الكل عن الارتواء والأودية

 ولا يتحدث أحد عن محاولات البرق كل مرة لكتابة شيء ما. 

يا ليتم البروق. 

لا يرون أنها تنتحر عارية من أجل غاية ما. 

لا يتحدث عن بسالتها الرعاة ولا الشعراء. 

لم يتحدث أحد عن البرق كجندي يصاب بالعمى

 فيطلق النار في كل الاتجاهات،

 يقتل الناس ربما، لكنه لا يقصد الإيذاء، بل يشعر بالخوف،

 ولا يدري من الأصدقاء.

الأحد، 19 يونيو 2022

فقدنا الريح





تحدثنا طويلاً عن البحر. 
..................................................

والبحر شخصٌ باردٌ لا يحب الحديث عن صورته ولا يدافع عن نفسه. 
هو الصدع والماء والريح والنار. كيف للأشياء كلها أن تتحدث في موجة واحدة؟

تحدثنا عن البحر هذا الصباح. 

رأيناه عالقاً في زرقة بالية. مبللاً طيلة الوقت بالعالقين فيه. متهماً بالقتل والغدر.
 مثقلاً منذ مولده بدعوات الهاربين فوق ظهور السفن. بصلاة الغارقين في جوفه الأحدب الطويل. 
وأقول إن البحر ساحة حرب. لكنه لم يختر الحرب. فلماذا نلوم البحر على الذين اختفوا فيه؟


أفكر أن الغضب الذي يطبع البحر ليس غضب البحر.
أن غضب البحر هو غضب الآخرين. 
أنه مزاج الآلهة وشقاق الأرض مع نفسها منذ وقت طويل.
 وقد خرج الأمر عن يدنا الآن. لأن البحر قبل قدومنا للحياة كان فكرةً مرتجلة لم تُصلح الحياة. 
لأن العشبَ الأزرق نزوةُ الألواح. 
لأن الماء خطأ اليابسة، والمحيط العظيم ندم السحاب.

قلنا كلاماً جارحاً عن البحر.

قلنا البحر ذريعة السلطان ومرايا اليأس الأخضر. يحيطونه باللعنات واللحوم الطيبة والمجد والموت. 
باسمه يقتلون وله يقدمون القرابين. يزوجونه العذارى ليهدأ والأنبياء ليؤمن. 
يعلّقون حدوةً صدئة فوق صدره  كي يبطيء السير.
 يكشفون له الأثداء الغضة كي لا يجذبهم إلى الأعماق.

لكن البحر ليس فاجراً أو كافراً أو مهووساً بنيل شيء. 
البحر يأس كبير. لا الأجساد ولا الكلمات تصل إليه. 
فالبحر عالق في نفسه مثلما أننا عالقون في سوادنا القديم. 
يعلم أنه يذهب ذات يوم إلى الجحيم. 
أو أنه سيصير الجحيم.

لذا يكتفي بتمرير حزنه بين قارتين، كاتماً سره كل يوم في آذان غرقاه.

تحدثنا طويلاً عن البحر.
عن الحب والقيء والموت والمعجزات. عن القراصنة والأوبئة. عن الصيد والعاصفة. عن الريح الطيبة والخيانات.

ثم توقفت أصواتنا فجأة في منتصف البحر.

وفقدنا كل شيء

حين فقدنا الريح.

 

الجمعة، 10 يونيو 2022

مسقط الرأس



الحياة أشياء تأتي في نهاية اليوم. 

التعب والعتب والخوف.

أشياء تأتي في نهاية اليوم. 

أقف الآن أمام نافذة المطبخ لأخلص الأطباق من جلوسها الحزين. تتشقق يدي من الماء. تقف الكواكب على الكتف مثل طير ملّ من السماء. تتهاوى الأسماء المستخدمة في النهار الطويل. يضيئون الملعب والساحة والبرج. تنساني النافذة التي كانت تتودد يدي في الصباح. تعود الحمامة إلى بيضتين في نافذة المنور. تقع ريشة على ذراعي، ويتطاير البوتاسيوم من الوريد. 

الحياة الآن عالقة في نهاية اليوم.

لأن القمر حُجة بالية لمديح الوقت، والغروبُ طعنة تحدث كل مساء.

لأن الخوف مسقط الرأس. والهزيمة محفوظةٌ في الكهرمان.

لأنني كلما أمسكتُ بحجر الحظ وقلبته وجدتً الخوف مكتوباً على ظهره. كلما كسرتُ بيضةً التصقت بيدي صرخة بيضاء. كلما تسللتْ نشوةٌ  إلى شفتي شعرتُ بخثرة في الساق. كلما صرختُ من نشوة العثور على يابسة فأجأني القراصنة بسيوف باردة زرقاء. وفهمتُ وأنا أغلق المزلاج كل دقيقة أن الناس هم الخوف.

ما دام هناك شخصٌ يعرف صوتك فأنتَ في قبضة الخوف. ما دام هناك من يصحو لينساك فأنت في قائمة الموت. ما دام لديك جرسٌ في البيت فسوف يستخدمونه لتدميرك. ما دمتَ تحلمُ فسوف يعثرون عليك. ما دام لديك نبتة تسقيها فأنت في عصمة الذبول. ما دام لديك قطة تطعمها فأنت على شفا حزن كبير. 

و‏أسوأ من خوفك، أن تخاف على الغرباء منك. لأن الخوف درّبكَ على الفتك.

 يدكَ المرتعشةُ مسننة وباردة، وقلبكَ متوجسٌ منك.

 خوفٌ لا تردمه الأمهات ولا دموع القواميس.

 لأنكَ تعرفُ جرحاكَ من لون عينيك.

 تعرفُ أن النجاةَ فتاة تضع كثيراً من المساحيق. وأنتَ تشتتُ المصادفات السعيدة بالركض الطويل وصعود الجبال.

 أنت الآن أيها الولد، ولدٌ خائف يعوّل كثيراً على سماعة الرأس، ويعشق الحرب والانفجارات.

الجمعة، 27 مايو 2022

أخذتكِ المرتفعات



كان صوتكِ يضع حدوداً لليل. 

كنتِ تضعين الصمتَ في مكانه وتمنعينه من امتلاك العيون.
 كان كل شيء في الكون في مكانه الطبيعي حين كنتِ تتحدثين. لكنّ مخلباً شفيفاً للنوم بات يأخذك مؤخراً لتنامي كل ليلةٍ في المرتفعات. ثم مستغلاً غيابك يقتلنا الليل.

كان صوتكِ فرصةً أخيرة للخروج من كل شيء. لكنكِ ملتِ إلى الدعة والظلال. 
كان صوتك فرصةً لظهور الطريق وانحسار الفراغ. كان صوتك أمل الوردة وروح العطر. لكنك هكذا تحبين البرق والفكرة العابرة أكثر من الناس والأمطار، وتمنحين هالة صوتك للجبل كي يواصل اليأس والارتفاع.

كان صوتكِ خميرةً يجهل أصلها الخبازون وصانعو الخمور.كان يمر مخابز المدينة كلها في لحظةٍ واحدة ليصلح العجين، ويشعل شمعةً في قبو العناصر و الاحتمالات.
 
كان صوتك غسّالةً هائلةً بلا صوت. يغسل ملابس الغرباء الذين يمرون بك، ويجفف ملابس الأولاد الذين ينتظرون قمصانهم الوحيدة ليذهبوا إلى السأم والأصدقاء.
كان صوتك هواءً مشمساً يهزّ حبال الغسيل في المدن المصابة بالقمل. كان يداً قوية تنظف الأرض من التبغ الرديء ومن الأثرياء.
كان يداً تلعب مع القطط التي تشعر بالملل من نومها الأرضي الطويل، وماءً قاطعاً يزيل القذى من العيون والحمائم من الشبابيك.

كان صوتك الماءَ الذي يعالج فساد الأنهار.

أنت لا تدركين أن الطبيعة تتكيء عليك.

أن العشب لا يظهر بسبب الغيم بل حين تخرج من فمك (الشين). أن الظلَّ لا يمتدّ بسبب انكفاء الشمس بل بفعل الراء التي تسقط مراراً منك دون اهتمام.
وحين تطيرين مع الجبل لا تقولين كيف يزيل الناس أثر (الجيم) التي خرجت منك والتصقتْ بالهواء؟ لا تشرحين كيف خرجت الإنسانية من (السين) التي انسربت من ثناياك وأنت تتحدثين بكل هذا العدم وكل هذا الهراء؟

لا تدركين أيتها الغافلة أن الطبيعة تحتاج صوتك لتكون.

تقولين إنك متعبة من الاستواء وتحتاجين إلى الأنقاض. إنك بحاجة إلى الكنبة أكثر من الكلام. إلى حضن شخص ليس له وجه ولا مستقبل ولا يدان.
وأقولُ صوتكِ حضنُ نفسه. فكيف يحتاج الحضن إلى حضن؟ ولماذا ترتاح جراحك في المخالب والمرتفعات؟

أنت لا تدركين أن الطبيعة تتكيء عليك.

وتجهلين أنكِ حين تضعين باستمرارٍ حاجزاً هشاً مثل (أظن) وسط كلامك، ينهال علينا اليقين.

أيتها المتعبة الهاربة من الكلام الضئيل .. كان الهدوء الممطوط الذي يبلل(الميم) في كلامك ما ينقص الكون ليرتاح من كل هذا الكلام.

 

الأربعاء، 18 مايو 2022

زهرة الملل

 


السفر إلى مكانٍ جميل، موسيقى الحجرة، أناقة الصديقات، سهرة اللوز والتوت والعطر، الحب وما قبل الحب، النبيذ الأبيض الموسوم ب(الذيل الأصفر)، النبيذ الأحمر المسمى ب (الذئب)، الجعة الذهبية البافارية أو تلك الإيرلندية السوداء بطبقة الكريما،  الفتيات المصقولات في حلبة الندم، المرسى المدجج بالقوارب الغضة البيضاء، القطط والطفولة والشاي، المشي والتدخين، النافذة ووهم النافذة : فواصلٌ بيضاء في كتاب الملل.

أفكر بالملل. هذا الإله الذي يتيه في الناس وينسى كيف يعود إلى العرش. هذا الذي ملّ من هدوء الملائكة وفاضت كأسه على الأرض.

 هو الجمرة والكلام الناقص. الزهرة والغبار الموسمي. الصخرة السوداء التي تسيطر على الغابة. الفاكهة في كانڤس الطبيعة الصامتة.  الملابس المعلقة على الحبل منذ أسبوعين. مكعبات الثلج والفحم. سجادة اليوغا والصلوات. رجفة الماء في قنينة الماء. الصوت الحلو في إرسال مشوش متقطع. الحقد القديم للنرد. الغجري الذي يخطف أبناءه ويرسلهم للحروب. الساتان والصوف، الأبواب الزرقاء على البحر، الجرانيت  في بيت العائلة، الشمس في ظهيرة الرياض، والثعالب الضالة في الليل الإنجليزي. ونحن جند هذا الإله الحزين، المحكومون بصقل سهوه وشروده طيلة الوقت.

لا شيء تعلمنا إياه مئات الطائرات والبهجات الخاطفة. إنها لا تترك حتى أثر عضة، ولا ما يشبه الطلقات الفارغة التي يتركها الجنود الذين قتلهم الملل في الصحراء.

أفكر بأول رجل شعر بالملل، هل كانت تنقصه الحجارة والسهام كي يقتل الصحراء؟ هل كان رجلاً بالفعل؟ امرأةً؟  أم رجلاً وامرأة ملتصقين في سرير ؟ هل كان في كهفٍ أو حانةٍ أو معبد حين ظهرت له زهرة الملل فأطلق الصرخة التي تجثم فوقنا الآن؟

 أفكر بالملل. ألم يكن هزةً ورعشةً في العشية قبل أن توقظه الشمس ويخترقه الصداع؟ ألم يكن حجراً سعيداً في الغدير؟ 

أفكر أن الصباح أصل الشرور. والليل أشياء ليست لك. أفكر بالأسلاف الذين اخترعوا المودة ثم ماتوا لم يسمحوا لنا بالطيش. لو أننا بلا آباء لعرفْنا كيف نقتل هذا الليل.  ولكن ما فائدة هذا الآن؟

مللٌ في الممرات لا يحتاج  إلى شعلة أو مصباح. يعثر بلا جهدٍ 
عليّ، يترك برازه الصمغي على رئتي وينتهك جسدي طيلة اليوم. 

هذا الجسد الذي ينزّ منه الصمت، يشبه عامل منجم مات في انهيارٍ قبل سنوات. قتلته أعمدة الملح وهو يبحث عن عروق الأمل، وظلّ الملح يحرس جلده بإخلاص، من أسنان الجميلات.

الثلاثاء، 17 مايو 2022

الغضب على الظهير



نشاهد الليلة نفس الوثبات البائسة من ظهير فريقنا الكسيح. نضع ثلجاً ملوناً في زجاجة التنباك ونسحب سيلاً طويلاً من اللعنات. ونقول إنها خطى. وهذي الخطى لا تقود إلى صيحة أو جناح. نقول إنّ هذي الساق جرحٌ قديم يحرث العشب، وهذي اللمسة موت بطيء.  مخطيء من يقول الملعب يتسع حين يركض الظهير. من يقول العشب يشعر و الهواء يحس والسماء ميعاد. لأننا  شاهدنا الظهير يعرق منذ أعوام ولا يخلق أي فرصة للطيران. ثم شهدنا اللعنات تتدحرج فوق ظهره من أعالي المدرجات. لكن لم يكن لدينا ما نلعنه سواه.  هذا الركض الطويل العقيم. كأن هناك إصراراً من جهة ما على جريان الكرة من مجراه. لم تجر كرة سوى بين ساقيه المقوستين. لم يركض أمامنا إلا هو ولم يتوقف فجأة سواه. وكانت عيوننا بسبب ذلك محاصرة في الرواق الشمالي. وكان على لعناتنا أن تتبع مسار الملل الأعسر. 

كأن الظهير هو المتاح لغضب ورثناه من أسلاف مكسورين. نتمسك بالفرق الخاسرة لأننا خسرنا الأصدقاء والحياة، ونلاحق فريق الطفولة العقيم لأنه فرصتنا الوحيدة في التعلق. لأنه الشيء الوحيد الذي لا يتخلى عنك. تتخلى العائلة والبيت. لكن فريق الطفولة المنهار لا يدعك للصمت. 

قلت للنديم وهو يشاهد طلعةً فاشلة للظهير إن الظهير بالذات ليس سوى غضب هش يجري باستمرار.

قلت إنه لعنتنا القديمة التي تخرج من أدمغتنا لتركض في الرواق ونلعنها معاً على الهواء. 

نصدّقُ أنه يسمع صراخنا في خلق المساحة، واتخاذ القرارات. نحن الذين لم نتخذ في حياتنا أي قرار.

لكننا نسهر من أجل فكرة الشتم. 

أحياناً كي نأخذ نفساً طيباً نحتاج أن نشتم شخصاً قليل الحيلة قبل النوم. أن نرى لعنتنا مجسدة أو مصلوبةً في ميدان. هذه هي الفكرة من وجود تسعة وتسعين ظهيراً فاشلاً بين مائة ظهير. وقد انتظرنا من ظهيرنا أن يصنع جملة أو موجة أو فرصةً لكنه كان يكتفي بالوصول إلى الخطر دون هدف واضح أو رغبة في الاختراق. كأن أقدامه لم تخلق للانعطاف. كان لعنة تركض إلى الأمام بخط مستقيم و تعود بخط مستقيم. وكانت هذه هي مشكلتنا في الحياة.