لم أعد أعرفني بعد أن فاتتني النظرة.
كانت عيونكِ مشغولةً بانهياراتٍ بعيدة، هدبكِ بانثناءاتِ التانغو، وحاجباكِ بخفة الحواة.
كانت لكِ نظرةٌ من ثلاثة أدوار. في كلّ طابقٍ جزء. وكانت نظرتكِ تخرجُ في وقتٍ واحدٍ من ثلاثة شبابيك.
لم أعد أعرفني بعد أن فاتتني النظرة.
كانت عيونكِ مشغولةً بانهياراتٍ بعيدة، هدبكِ بانثناءاتِ التانغو، وحاجباكِ بخفة الحواة.
كانت لكِ نظرةٌ من ثلاثة أدوار. في كلّ طابقٍ جزء. وكانت نظرتكِ تخرجُ في وقتٍ واحدٍ من ثلاثة شبابيك.
وحدها الظنون تكتب وصفة الليل.
*
أعرف أجراساً أكثر من أجراس الشك.
أجلس في مقهى ينشر أجراساً نحاسية في سقفه. أجلس، ولا أدري ما الذي تفعله امرأة مرهفة في مقهى يقرع الأجراس؟
حين يطلب الزائر قهوةً يقوم النادل بعد أن ينهي تخمير القهوة بقرع جرس بيده. يتوالى قرع الأجراس هنا وسط الأحاديث الخافتة. يقرع النادل جرسي وأنهض للقهوة. تتحدث المرأة المرهفة في هاتفها عن ولد يعاني الرهاب. هل ما زال يرفض الاستحمام؟ تهتف المرأة. وأفكر .. ما سر هوس المعالجين بفكرة تخلي شخص فجأة عن الماء؟ كأن الاستحمام دليل براءة.
على كل طاولة وضعوا جرساً من نحاس. فوق رأس المرأة المرهفة كانت تتدلى أجراس من السقف، وفي يدها يتعرق قلمي المعدني الثقيل.
كانت تتحدث وتكتب بالقلم فوق منديل، وكنت أنقر بيد واحدة فوق اللاب توب. كنت أشك ثم أوقن أنها ستذهب بالقلم بخفة الحواة المترحلين، هي التي تتحدث بصدق فني مع أمٍّ متخَيلَة عن إدمان ألعاب الفيديو ورهاب المناسبات. كان لها جمال الجواسيس وتحيط بها هالة من ثراء بغيض. وكان قلبي ينوس مثل بندول صدىء، وهو يتصور اختفاء القلم الذي أحمله منذ أكثر منذ عقد. القلم الذي شاهد كل شيء سيذهب الليلة مع امرأة مجهولة تحيط نفسها بهالة من طب وغموض وثراء.
كانت أقراطها تكفي لإشعال حرب، وساعتها كفيلةً بعلاج التاريخ. لا أدري كيف صدّقتُ امرأةً لا أعرفها، وأعرتها قلم العيش الذي لم يفارقني منذ سنين؟ ولا لماذا تركت المرأة كل الجيوب في المقهى واختار بصرها قلمي المسالم المطمئن في الجيب.
حين استسلمتُ للخسارة وأغلقتُ سحاب حقيبتي لأغادر المقهى، تدلتْ يدٌ من لا مكان. أشهرتْ يد المرأة قلمي في وجهي. كأنها سخرتْ من عماي، من نوبة القلق، وهي تدفع القلم ليلمس يدي الباردة الغائبة عن الوعي.
كان قلمٌ يحط على يدي وكان محاطاً بدفء سافر. كان نبضٌ وكانت شعلةٌ زرقاء تحيطان بالقلم الأسود. شعرتُ بما يشبه الشمس المجوسية في أصابعي حين استعدتُ القلم. شعرتُ أنني عدتُ للحياة أو عدتُ للموت. شعرتُ بالخواء والامتلاء. شعرتُ فجأةً أنني أضعتُ حياتي. وكان هذا مريحاً أو قاتلاً. وددت لو أن هذا كله لم يحدث. أفكر هل سممت المرأة التي تتحدث عن الرهاب قلمي الثقيل؟ والسم .. سينفذ إلى جلدي قبل حلول الصباح؟
توقفت يدي فوق القلم، ولم تتوقف الأجراس.
نتذكر ونحن نحصي الضحايا عصفوراً أحمرَ غاب فجأة عن شاشة الليل.
كانت الظلالُ تتوردُ على ترقوتك الغائمة. وكانت شموسٌ تتأهبُ من كل مكان.
كانت البجعةُ تطوي قدمها عالياً باتجاه السقف، وكان الهدوء يسقط من رأسها على سجادة التمرين.
كنتِ تسحبين جرعةً وركبتكِ فوق عُنقِ الوقت.
كان جسدك في الخلوة يعترف للمطاط، والوقت يكفّ عن أذاك.
كنتِ تنسلين من الأيام الماضية في اليوغا،
ولم نكن نعرف إن كان قرص الشمس يسقط في قدح القهوة الذي تشدين به يدك،
أم إن قدح القهوة كان يغطس في يدك، لتلتئم عَظْمةُ الصباح.
البروق مكالمات فائتة لا يرد عليها الأصدقاء.
ندرك هذا في الصباح بعد توقف الأمطار، حين يتحدث الكل عن الارتواء والأودية
ولا يتحدث أحد عن محاولات البرق كل مرة لكتابة شيء ما.
يا ليتم البروق.
لا يرون أنها تنتحر عارية من أجل غاية ما.
لا يتحدث عن بسالتها الرعاة ولا الشعراء.
لم يتحدث أحد عن البرق كجندي يصاب بالعمى
فيطلق النار في كل الاتجاهات،
يقتل الناس ربما، لكنه لا يقصد الإيذاء، بل يشعر بالخوف،
ولا يدري من الأصدقاء.
الحياة أشياء تأتي في نهاية اليوم.
التعب والعتب والخوف.
أشياء تأتي في نهاية اليوم.
أقف الآن أمام نافذة المطبخ لأخلص الأطباق من جلوسها الحزين. تتشقق يدي من الماء. تقف الكواكب على الكتف مثل طير ملّ من السماء. تتهاوى الأسماء المستخدمة في النهار الطويل. يضيئون الملعب والساحة والبرج. تنساني النافذة التي كانت تتودد يدي في الصباح. تعود الحمامة إلى بيضتين في نافذة المنور. تقع ريشة على ذراعي، ويتطاير البوتاسيوم من الوريد.
الحياة الآن عالقة في نهاية اليوم.
لأن القمر حُجة بالية لمديح الوقت، والغروبُ طعنة تحدث كل مساء.
لأن الخوف مسقط الرأس. والهزيمة محفوظةٌ في الكهرمان.
لأنني كلما أمسكتُ بحجر الحظ وقلبته وجدتً الخوف مكتوباً على ظهره. كلما كسرتُ بيضةً التصقت بيدي صرخة بيضاء. كلما تسللتْ نشوةٌ إلى شفتي شعرتُ بخثرة في الساق. كلما صرختُ من نشوة العثور على يابسة فأجأني القراصنة بسيوف باردة زرقاء. وفهمتُ وأنا أغلق المزلاج كل دقيقة أن الناس هم الخوف.
ما دام هناك شخصٌ يعرف صوتك فأنتَ في قبضة الخوف. ما دام هناك من يصحو لينساك فأنت في قائمة الموت. ما دام لديك جرسٌ في البيت فسوف يستخدمونه لتدميرك. ما دمتَ تحلمُ فسوف يعثرون عليك. ما دام لديك نبتة تسقيها فأنت في عصمة الذبول. ما دام لديك قطة تطعمها فأنت على شفا حزن كبير.
وأسوأ من خوفك، أن تخاف على الغرباء منك. لأن الخوف درّبكَ على الفتك.
يدكَ المرتعشةُ مسننة وباردة، وقلبكَ متوجسٌ منك.
خوفٌ لا تردمه الأمهات ولا دموع القواميس.
لأنكَ تعرفُ جرحاكَ من لون عينيك.
تعرفُ أن النجاةَ فتاة تضع كثيراً من المساحيق. وأنتَ تشتتُ المصادفات السعيدة بالركض الطويل وصعود الجبال.
أنت الآن أيها الولد، ولدٌ خائف يعوّل كثيراً على سماعة الرأس، ويعشق الحرب والانفجارات.
السفر إلى مكانٍ جميل، موسيقى الحجرة، أناقة الصديقات، سهرة اللوز والتوت والعطر، الحب وما قبل الحب، النبيذ الأبيض الموسوم ب(الذيل الأصفر)، النبيذ الأحمر المسمى ب (الذئب)، الجعة الذهبية البافارية أو تلك الإيرلندية السوداء بطبقة الكريما، الفتيات المصقولات في حلبة الندم، المرسى المدجج بالقوارب الغضة البيضاء، القطط والطفولة والشاي، المشي والتدخين، النافذة ووهم النافذة : فواصلٌ بيضاء في كتاب الملل.
أفكر بالملل. هذا الإله الذي يتيه في الناس وينسى كيف يعود إلى العرش. هذا الذي ملّ من هدوء الملائكة وفاضت كأسه على الأرض.
هو الجمرة والكلام الناقص. الزهرة والغبار الموسمي. الصخرة السوداء التي تسيطر على الغابة. الفاكهة في كانڤس الطبيعة الصامتة. الملابس المعلقة على الحبل منذ أسبوعين. مكعبات الثلج والفحم. سجادة اليوغا والصلوات. رجفة الماء في قنينة الماء. الصوت الحلو في إرسال مشوش متقطع. الحقد القديم للنرد. الغجري الذي يخطف أبناءه ويرسلهم للحروب. الساتان والصوف، الأبواب الزرقاء على البحر، الجرانيت في بيت العائلة، الشمس في ظهيرة الرياض، والثعالب الضالة في الليل الإنجليزي. ونحن جند هذا الإله الحزين، المحكومون بصقل سهوه وشروده طيلة الوقت.
لا شيء تعلمنا إياه مئات الطائرات والبهجات الخاطفة. إنها لا تترك حتى أثر عضة، ولا ما يشبه الطلقات الفارغة التي يتركها الجنود الذين قتلهم الملل في الصحراء.
أفكر بأول رجل شعر بالملل، هل كانت تنقصه الحجارة والسهام كي يقتل الصحراء؟ هل كان رجلاً بالفعل؟ امرأةً؟ أم رجلاً وامرأة ملتصقين في سرير ؟ هل كان في كهفٍ أو حانةٍ أو معبد حين ظهرت له زهرة الملل فأطلق الصرخة التي تجثم فوقنا الآن؟
أفكر بالملل. ألم يكن هزةً ورعشةً في العشية قبل أن توقظه الشمس ويخترقه الصداع؟ ألم يكن حجراً سعيداً في الغدير؟
أفكر أن الصباح أصل الشرور. والليل أشياء ليست لك. أفكر بالأسلاف الذين اخترعوا المودة ثم ماتوا لم يسمحوا لنا بالطيش. لو أننا بلا آباء لعرفْنا كيف نقتل هذا الليل. ولكن ما فائدة هذا الآن؟
مللٌ في الممرات لا يحتاج إلى شعلة أو مصباح. يعثر بلا جهدٍ عليّ، يترك برازه الصمغي على رئتي وينتهك جسدي طيلة اليوم.
هذا الجسد الذي ينزّ منه الصمت، يشبه عامل منجم مات في انهيارٍ قبل سنوات. قتلته أعمدة الملح وهو يبحث عن عروق الأمل، وظلّ الملح يحرس جلده بإخلاص، من أسنان الجميلات.